بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وخروجها منكسرة ومحطمة لا تمتلك أي شيء، ولم يبقَ على أرضها سوى ركام الدمار، وقد أورثتها أهوال الحرب أحوالاً كئيبة بنحو 7 ملايين عاطل عن العمل وأكثر من ذلك بكثير من فاقدي الأمل، مع انهيار كامل لمعظم المدن الرئيسة، هذا غير الكوارث الإنسانية المباشرة من قتلى وجرحى وتلوث بأشكاله كافة، بعد كل هذا تكهن العالم بانتهاء اليابان كدولة، وخروجها من التاريخ. إلا أن روح العزيمة والإصرار والإرادة التي تحلى بها اليابانيون جعلتهم ينتفضون من بؤس هذه الأحوال بأسرع مما توقع العالم كله، ويتمكنون من النهوض مجدداً ليبنوا أمجاداً جديدة، سمحت لهم بالتربع على عرش الصناعات العالمية، والتمكن من مفاصل أهم اقتصادات العالم، وإعادة ريادتهم في الابتكار والتكنولوجيا، في غضون سنوات قليلة من هزيمتهم المريرة. وكان كل ذلك طبعاً مرهوناً بالأخذ بالأسباب، والتركيز المطلق على العلم والمعرفة والنهوض بالشباب ودفعهم نحو الانكباب على اكتساب أرقى مهارات التعليم بكل أشكاله ووسائله، والاستثمار في المعارف والعلوم التي كانت بوابتهم الجديدة نحو غزو العالم أجمع بالمنتجات اليابانية والصناعات التنافسية التي لا يعلى عليها. وبمفهوم آخر فإن اليابان عادت لتبني نفسها بعد الكارثة من تحت الصفر لتصبح في وقت قياسي رقماً صعباً ونموذجاً يحتذى في دول العالم المتقدم. وبطبيعة الحال فإننا نستطيع أن نعتبر من ذلك المثال ونستخلص دروسه وعِبره الكثيرة، ونسعى لتطبيقه في الدول العربية التي عانت ويلات الإرهاب وثورات «الربيع العربي» المنحوس، وبالعمل وحده يمكننا نحن العرب إنعاش الأمل من جديد وتجاوز رؤية المتشائمين الذين يرون عودة تلك الدول لطبيعتها أمراً مستحيلاً، وتحقيق التنمية والازدهار فيها أملًا مفقوداً وحلماً مكذوباً! والواقع أن بعض الدول التي دمرتها الحروب مثل سوريا وليبيا والعراق تمتلك من الإمكانات والمقومات ما يؤهلها لتحقيق الإعمار والازدهار بالتركيز المطلق على العلوم والمعارف حتى تعود مجدداً إلى أحوال الاستقرار، وتثبت قدرتها على تخطي العقبات وتحقيق التطلعات. فإذا اجتمع العلم والإرادة في تلك المجتمعات، التي يرى بعض المحللين صعوبة عودتها كما كانت قبل النكبات، سيكون تحقيق النموذج الياباني فيها ممكناً، وأمراً سهلاً، وخاصة مع إيمان العرب بقدرتهم على بناء أوطانهم من جديد. ويقع عادة تصنيف مجتمعات دولنا العربية ضمن «الشعوب الفتية»، بحكم التركيبة الديموغرافية وارتفاع نسبة الأجيال الصاعدة على هرم السكان، وهذه ميزة سكانية في حد ذاتها. وهي تمتلك من الموارد الطبيعية ما يجعلها قادرة على أن تتصدر العالم أجمع بل وتقوده. ولذا فإن السؤال: ما الذي يجعلنا في هذا الفشل الذي لا يتناسب أبداً مع حضارتنا العريقة؟ لا شيء طبعاً سوى أن تستجمع الشعوب العربية في تلك الدول غير المستقرة ما تمتلكه من عناصر قوة وثروة كثيرة، للإقلال من وهدة الفشل وعدم الاستقرار. والتعليم هو أهم وسيلة في بناء الأمم والحضارات، والاستثمار المستدام الأضمن هو الاستثمار في الموارد البشرية. ولكن قد يفهم بعض الناس، للأسف، قيمة التعلم والتعليم على غير وجهها، حتى أصبح مفهوم الحصول على شهادة أهم عندهم وأجدر من القدرة على الفهم والاستيعاب والابتكار، وبالتالي فربما أصبح العرب يتصدرون العالم بأعداد الشهادات العليا، ولكن غير المؤهلة فعلياً بحسب المقاييس العالمية! ولذا فحتى نستطيع النهوض بالبلدان العربية ينبغي لنا التركيز على جودة التعليم والتعليم الفني الصناعي الإنتاجي، الذي من شأنه بناء مجتمع «منتج» قادر على خلق اقتصاد وطني قوي ومتماسك وغير قابل للتبعية والاستغلال. فالشريحة العاملة المؤهلة والمدربة من خلال التعليم الفني المتخصص هي الطبقة الغالبة الفاعلة في الدول الصناعية الكبرى، ولذا فإن علينا الارتقاء الشامل والكامل بالنظرة العامة للعامل المتخصص والحرفي الماهر، وتجاوز بعض الصور النمطية المتولدة عن الاعتقاد السائد بأن تلك الحرف هي أقل الدرجات الوظيفية في المجتمعات، وهي التي جعلت من الحرفي الماهر والصناعي المنتج ينظر إليه أحياناً نظرة دونية من طرف بعض فئات المجتمع. وفي المقابل فدولنا العربية لا تحتاج إلى كل تلك الآلاف المؤلفة من خريجي الجامعات والتعليم الأكاديمي العالي، والنظري في معظمه، وإنما هي في حاجة ماسّة إلى الأجيال الشابة المنتجة القادرة على الابتكار والتصنيع والإبداع. إن علينا كعرب أن نعي حقيقة «التعليم» واعتباره أهم مقومات الأمن القومى، وأما الاستمرار في عدم الاعتناء به فتترتب عليه تداعيات خطيرة قد تعصف بكل مكتسبات الدول العربية من إنجازات تنموية حققتها لفائدة الشعوب. فالتعليم هو الجسر الوحيد الذي تمر عليه كل مشاريع التنمية الرامية إلى خدمة وتطوير المجتمع، وهو حجر أساس يرتكز عليه بناء المؤسسات في جميع ميادين الحياة، وحصن تشيده الثقافة للمحافظة على المكاسب وحمايتها. ومن هنا وبالمقارنة فالخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها اليابان بعد خروجها من الحرب العالمية تفوق خسائر البلدان العربية بأكثر من ستة أضعاف، إلا أن توظيف التعليم بالشكل الصحيح هو ما مكّن أبناء الشمس المشرقة من تجاوز كل ذلك، وفرض الهيمنة اليابانية على العالم بالتكنولوجيا والعلم والمعرفة، وهذا ما ينبغي، مرة أخرى، تأمله عربياً، والاستفادة مما فيه من دروس، لبناء مجتمع معرفة وعلم وأمل وحلم، وإنجاز نموذج عربي جديد بديل من صور التعثر التنموي المزمنة كافة في العديد من البلدان العربية اليوم.