شرعت الحكومة البريطانية مؤخراً من خلال نظام الرعاية الصحية الوطنية في تشجيع مواطنيها على استخدام ممارسة طبية فريدة، ربما تكون الأولى من نوعها في العالم. وذلك من خلال تشجيع المصابين بالتهاب في الحلق، على زيارة أقرب صيدلية، والخضوع لفحص بسيط، يستغرق خمس دقائق، لمعرفة ما إذا كان سبب الالتهاب هو فيروس أو بكتيريا. وبناء على نتيجة الفحص، إما أن يصف الصيدلي مضاداً حيوياً للمريض إذا كان سبب العدوى بكتيريا، أو مجرد مخفضات حرارة، والنصيحة بالراحة، والإكثار من شرب السوائل، إذا كان سبب العدوى فيروساً. وتأمل الحكومة البريطانية من خلال هذا النظام، بداية، في خفض عدد الزيارات لعيادات الأطباء التي يقوم بها المصابون بالتهاب الحلق، إحدى أكثر الشكاوى الطبية انتشاراً، مما سيخفض الضغط على عيادات الطب العام، ويوفر مصادر مالية وبشرية يمكن أن تستغل في مواجهة شكاوى طبية أكثر خطورة وأهمية. والسبب الثاني، وربما الأهم، هو الحد من فرط استخدام المضادات الحيوية، وخصوصاً في الحالات التي لا تجدي فيها هذه النوعية من الأدوية نفعاً، كما هو الحال مع التهابات الحلق الفيروسية، كأحد أهم التدابير والإجراءات الهادفة لمواجهة تصاعد ظاهرة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. وبالفعل أظهرت البيانات والدراسات الأولية أن الغالبية العظمى من التهابات الحلق سببها عدوى فيروسية، وليس عدوى بكتيرية. فمن خلال تحليل نوع الجرثومة المسببة للعدوى لدى 360 مريضاً مصابين بالتهاب الحلق، تبين أن 36 منهم فقط كانت البكتيريا هي السبب. وهو ما يعني أن المضادات الحيوية كانت ستفيد 10 في المئة فقط من هؤلاء، بينما لن تجدي نفعاً في 90 في المئة من باقي الحالات، بل ربما كانت ستتسبب في أعراض جانبية سلبية. ولذا حسب تلك البيانات، إذا ما تم حصر استخدام المضادات الحيوية على حالات العدوى البكتيرية فقط، فسينتج عن ذلك خفض بمقدار 90 في المئة في عدد الوصفات الطبية لهذه الأدوية والعقاقير الطبية، وهو ما سينتج عنه خفض هائل في النفقات وفي حجم الفاقد، وسيكون ذا أثر فعال في مواجهة ظاهرة زيادة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. وهذه الظاهرة شهدت خلال الأعوام القليلة الماضية تزايداً متسارع الوتيرة، بدرجة أصبحت تثير قلق العلماء من تبعاتها الوخيمة. وتتجسد هذه التبعات في حقيقة أن 700 ألف شخص يلقون حالياً حتفهم كل عام، نتيجة العدوى بالبكتيريا فائقة المقاومة للمضادات الحيوية، والمعروفة بالجراثيم السوبر. وحسب استشرافات مستقبلية أجرتها معاهد بحثية متخصصة، وإحصائيون، واقتصاديون، يتوقع بحلول عام 2050 أن تفتك هذه الجراثيم السوبر بعشرة ملايين شخص سنوياً، أي بواقع وفاة كل ثلاث ثوان. وبخلاف هذا الثمن الإنساني الفادح، يتوقع أيضاً لما أصبح يعرف بعصر ما بعد المضادات الحيوية، أن يكلف الاقتصاد العالمي 100 تريليون دولار بحلول عام 2050، حسب بعض التقديرات. ويأتي الإعلان عن هذا البرنامج، الذي تمت تجربته مبدئياً في 35 صيدلية، والتخطيط لتفعيله على مستوى بريطانيا كلها خلال عام، ليتزامن مع بدء فعاليات الأسبوع العالمي للتوعية بالمضادات الحيوية (World Antibiotics Week)، الذي يبدأ كل عام في الرابع عشر من شهر نوفمبر، ويستمر حتى العشرين منه. وتهدف فعاليات هذا الحدث الصحي العالمي إلى زيادة الوعي العام بمشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، والتشجيع على تطبيق الممارسات الصحية في استخدامها، من قبل عامة الناس، وأفراد الفريق الطبي، والعاملين في المجال الصحي، وحتى بين واضعي السياسات والتشريعات. وتتمحور فعاليات هذا العام حول عنوان خاص ومميز «المضادات الحيوية: تعامل بحرص وحذر» (Antibiotics: Handle with care)، للتعبير عن حقيقة أن المضادات الحيوية هي مصدر طبي ثمين، وربما من أهم العقاقير والأدوية في الطب الحديث، ولذا يجب الحفاظ عليها، وعدم إهدارها، من خلال فرط وسوء الاستعمال اللذين يؤديان إلى تولد مقاومة من البكتيريا ضد المضادات الحيوية، يفقدها فعاليتها. ومن أهم مظاهر فرط وسوء الاستعمال هذا تناول المضادات الحيوية لعلاج العدوى الفيروسية، التي كما ذكرنا لا تجدي المضادات الحيوية معها نفعاً. وحتى في حالات العدوى البكتيرية، يجب أن يتم صرف المضادات الحيوية بناء على وصفة من طبيب، لتحديد النوع الأنسب، والجرعة، وفترة الاستخدام. وعند الحصول على هذه الوصفة، يجب أن يقوم المريض بتناول المضاد الموصوف حسب التعليمات، وللفترة المحددة بالكامل. ولكن للأسف، يقوم كثيرون بعلاج أنفسهم بأنفسهم، والبدء في تناول مضاد حيوي، إذا شعر بالتهاب في الحلق، وبدون وصفة طبية. وإن كانت الطامة الكبرى، تتجسد في التوقف عن تعاطي المضاد الحيوي، بمجرد أن يشعر المريض بتحسن، وتبدأ الأعراض في الزوال، وقبل إكمال المدة المحددة للعلاج.