يصعب على البعض من أبناء جيلنا أن يدرك ويتصور مرور قرن كامل على اتفاقية سايكس- بيكو، البريطانية الفرنسية 1916، غير أن عجلة الزمن دارت فعلاً 360 درجة. كان ذكر الاتفاقية، مشفوعاً بالنقد اللاذع، بل اللعنات، وصداها بترددات في الذاكرة ولا تزال منذ أن غادرنا مقاعد الدراسة.. قبل عقود! ولكن ها نحن نمر بالذكرى المئوية الأولى لها. كانت الاتفاقية رمز الخيانة والجناية الغربية والتواطؤ الاستعماري ضد العرب. ولم نكن نختلف أبداً على أنه لولا هذه المؤامرة، لكنا اليوم كتلة واحدة وكياناً متحداً، ووحدة سياسية سكانية واقتصادية صلدة صلبة، على الأقل من دجلة إلى سيناء، ومن شمال العراق وحدود تركيا إلى اليمن. رحم الله تلك الخيالات والأحلام الندية. كانت المناسبة المئوية للاتفاقية محور اللقاء السنوي لصحيفة «الاتحاد» الإماراتية في مدينة «أبوظبي» العامرة بالمباني الجميلة والبشر الطيبين. وقد دارت بين الحضور والمشاركين ونخبة الكتّاب حوارات ثرية وأفكار مستجدة حول سايكس- بيكو، والحاضر العربي، وتقسيم العالم العربي.. وتفتيت ما هو مفتت كما نقول اليوم. ودارت في رأسي أسئلة كثيرة «وسيناريوهات» تاريخية متلاطمة. هل لا يزال اتفاق «سايكس- بيكو» سبب انقسام العرب، رغم كل الجهد العربي السياسي والتنموي، ورغم وصول حزب قومي إلى سدة السلطة ذات يوم ولعدة سنين في سوريا والعراق، وفشله في «توحيد القطرين»؟ وهل كان الوضع العربي سيكون متماسكاً رغم احتمالات تطور القوى الإقليمية، ونموها، وتصارع إيران الجديدة وتركيا، وظهور مختلف المشاكل وتململ الأقليات والطوائف؟ هل درسنا حقاً عوامل الوحدة والانقسام في العالم العربي بموضوعية قبل تلك الاتفاقية وبعدها، كصراع مصر في زمن محمد علي مع الجزيرة العربية، وانقسامات الشام والعراق وصراع الطوائف؟ وهل صراعات شمال أفريقيا العربية.. من إفرازات «سايكس- بيكو» كذلك؟ إن ما فعله بعض قادة الدول العربية وأحزابها بدول مثل سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا مثلاً، فاق بدرجات من السلبية والإجرام، بعض ما قام به الاستعمار. ويكفي أن نستعرض التاريخ القريب، من دون تذكير بالأسماء والحوادث.. لنقتنع! لقد بنى الإسرائيليون مثلاً بمجرد وعد بلفور دولةً. دولة حديثة عصرية متقدمة. فماذا فعلنا نحن ببلداننا وبشرنا وبترولنا وأموالنا، في دول لا تزال قادرة على أن تكون في ثراء وعطاء وتقدم أفضل دول العالم؟! العلمانيون والقوميون والإسلاميون والديمقراطيون والسلطويون والأكراد والسنة والشيعة.. الكل يلقي باللائمة على «سايكس- بيكو»! ولا أحد يتساءل: لماذا نجحت الاتفاقية كل هذا النجاح، ولماذا استجاب لها عرب العراق والشام، ولماذا تصارعت الشعوب والزعامات على «الخطوط المستقيمة» التي رسمها الساسة الغربيون، وتصارعوا في ما بعد على تلك الكراسيّ والعروش؟ حتى زعيم عصابة «داعش» الإجرامية أبوبكر البغدادي، وصف «دولة الخلافة» المزعومة التي أعلنها عام 2014، بأنها «المسمار الأخير في نعش مؤامرة سايكس- بيكو». كما نشر التنظيم شريط فيديو بعنوان «نهاية سايكس- بيكو». بالطبع، لا يسأل البغدادي نفسه وأنصاره، ماذا فعلت عملياته الإرهابية بالعرب والعالم، وبسمعة الإسلام والمسلمين، التي لم يقم بما يماثلها أعتى المجرمين. مشاعرنا ومبالغاتنا إزاء الاتفاقية قد تكون أخطر على «صحتنا السياسية» من الاتفاقية وذيولها وما تفرز دائماً من تعزيز لنظرية المؤامرة الخيالية المتواصلة ضدنا، منذ سنوات وعقود. وما تفسح من مجال لكل مقامر ومغامر يحاول اللعب بمشاعرنا وخداعنا. كان د. وحيد عبدالمجيد رئيس تحرير دورية «السياسة الدولية» المرموقة، ضمن المشاركين في لقاء «الاتحاد»، وكان ضمن ما جاء في كلمته «أن العرب لو أرادوا الاتحاد لما منعهم أحد». وما أصدقها من كلمة تلخص إجابات كثيرة! المدافعون الغربيون عن الاتفاق، يقول محمد أمين في مقال في «القبس»: «يزعمون أنه كان عملية تخبط أكثر من كونه مؤامرة. فقد سعى الدبلوماسيان الغربيان لرسم خريطة جديدة لأراضي الشرق الأوسط التي كانت لا تزال تخضع للإمبراطورية العثمانية في حقبة ما بعد الحرب، في الوقت الذي كانت فيه الحرب العالمية الأولى لا تزال مشتعلة ونتائجها لم تزل غير مؤكدة». لقد سرّب الثوري الروسي «ليون تروتسكي»، أحد زعماء الثورة البلشفية عام 1917، بنود الاتفاقية بعد الثورة مباشرة. وبالمناسبة ستحل الذكرى المئوية الأولى كذلك للثورة الروسية.. العام المقبل! انتشرت في وسائل الاتصال العربية قبل عام أو عامين «خريطة تفتيتية» جديدة للعالم العربي وُصفت بأنها «سايكس- بيكو جديدة». ولم يتساءل أحد: لمَ قد تنجح هذه «المؤامرة الجديدة».. مرة ثانية؟!