مثّل انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة يوم 9 نوفمبر صدمة ومفاجأة لمعظم المحللين السياسيين المحترفين. وخلال الأشهر القليلة التي سبقت الانتخاب، توقعت كل استطلاعات الرأي التي كان يتم إجراؤها يومياً، أن ترامب سيخسر الجولة أمام هيلاري كلينتون. ويوم 8 نوفمبر، قال خبير استطلاعات الرأي الشهير «نيت سيلفير»، وهو الذي اشتهر بتنبؤاته الانتخابية الناجحة، أن حظ كلينتون في الفوز يبلغ 71%. ولكنه كان على خطأ. ولكن، ليس وحده الذي أخطأ التقدير، بل شاركه في ذلك أعتى المعلقين التليفزيونيين فيما عدا المشاركين بحملة ترامب ذاتها، ولقد أثبتوا جميعاً خطأ تكهناتهم وتقديراتهم. والآن، فاز ترامب بالفعل، والكل منشغل بمحاولة فهم السبب الحقيقي الكامن وراء هذا الفوز. وطلع البعض بنظريات جديدة لتفسير اللغز تتضمن بعض الأفكار العامة المفيدة. وتفيد إحداها بأن الرأي العام الأميركي منقسم على نفسه بعمق. ويشعر الكثير من المواطنين بمعاناتهم من الوضع الاقتصادي الراهن ومن بقية المشاكل السياسية والاجتماعية. ويلقون باللوم على الحكومة، أو على الدولة التي فقدت القدرة على المنافسة في الأسواق الدولية، أو لأسباب متنوعة أخرى. والكثير من هؤلاء المواطنين الناقمين على الأوضاع هم من ذوي المهارات الوظيفية المتواضعة والذين لم يحصلوا على مؤهلات جامعية، ففقدوا بذلك وظائفهم بسبب الأنظمة التكنولوجية التي لا تتوقف عن التطور، أو بسبب الشركات الأميركية التي تنقل نشاطاتها إلى الدول الأجنبية، أو الشركات الأجنبية التي تحصل على مزايا مبالَغ فيها في أميركا، خصوصاً من حيث حقها في توظيف الأجانب. وآثر دونالد ترامب مخاطبة هذه الفئات المتضررة واعداً بإعادتها إلى وظائفها و«إعادة العظمة لأميركا من جديد». من جهة ثانية، قال ترامب إن هيلاري كلينتون هي المسؤولة عن معاناة هؤلاء منذ عدة عقود، عندما كانت زوجة للرئيس، وسيناتورة، ووزيرة للخارجية، ولكن من دون أن يذكر على وجه التحديد طبيعة المشاكل التي تحدث عنها. ولقد وجد هذا الطرح آذاناً صاغية لأن الأميركيين تعبوا من التصريحات السياسية الجوفاء ومن تعطّل الآلة السياسية في واشنطن حتى ظنوا أن ترامب هو الحلاّل الحقيقي لهذه المشاكل. وقال ترامب أيضاً إن السيدة كلينتون أساءت استخدام مركزها كوزيرة للخارجية من أجل حصد المزيد من الأموال لمؤسسة كلينتون الخيرية الخاصة، أو بسبب سوء استخدامها لبريدها الإلكتروني، وأشار إلى أن هذه المخالفات تكفي للزج بها في السجن. والحقيقة هي أن الكثير من الناس آمنوا بهذا الطرح وصدقوه. وشدّد ترامب على نقطة مهمة أخرى عندما قال إنه ليس ذا باع طويل في العمل السياسي كالسيدة هيلاري، بل هو «لا منتمٍ» سياسياً، ورجل أعمال تمكن من كسب المليارات، وهو القادر على قيادة أميركا إلى عهد جديد من الرخاء. ومن طبائع الأميركيين إعجابهم الشديد بالناجحين في أعمالهم، ومعظمهم صدّق أقواله بأنه سيترجم نجاحه الشخصي إلى نجاح للحكومة الأميركية التي ستتشكل في عهده. وكان يوجه نداءاته تلك إلى الأميركيين المُتعبين الذين باتوا يحملون الاقتناع الراسخ بأن الوقت قد حان لإحداث التغيير ورفض وصول «كلينتون آخر» إلى البيت الأبيض. ورغم أن ترامب لم يكن سياسياً أبداً، ولكنّه كان رجلاً معروفاً من ملايين الأميركيين بسبب كثرة ظهوره في برنامج تليفزيوني شهير يدعى «المتدرّب» Apprentice والذي بدأ بعرضه عام 2004 ليقدم نفسه من خلاله على أنه رجل أعمال قوي وصانع من الطراز الأول لقرارات العمل الناجحة. وبعد أن اكتسب هذه الشهرة المفاجئة، لم ينسَ أن يوجّه اللوم إلى السياسيين بسبب الأوضاع التي آلت إليها أميركا، وتذكيرهم بأن أداءه سيكون أفضل من أدائهم. وليس من المعروف حتى الآن ما السياسات التي سيتبناها ترامب من أجل تحقيق التغيير الذي أفرط في الحديث عنه لأنه من طراز الرجال الذين يتجنبون الخوض في التفاصيل. وعلى سبيل المثال، قال إنه سيطرد كل المهاجرين غير القانونيين الذين تجاوز عددهم 11 مليوناً، ولكنه لم يشرح الطريقة التي يمكن بها طرد هذا العدد الكبير من الناس. ولا يمكن تنفيذ عملية طرد جماعي كهذه أبداً لأنها مهمة تصطدم بنصوص القوانين النافذة في الولايات المتحدة ذاتها، وأيضاً لأن الكثير من الآباء المقيمين بطريقة غير قانونية في الولايات المتحدة، لهم أبناء من المقيمين الشرعيين والذين وُلدوا فيها. ويتعلق المثال الآخر لهذا الغموض بالموقف من تنظيم «داعش» الذي قال بشأنه إنه سيقضي عليه بمجرد دخوله إلى البيت الأبيض. وعندما سئل عن الطريقة التي سيتبعها لتنفيذ هذا الوعيد، أجاب بأن الأمر يتعلق بخطة سرّية لا يجوز فضحها لأن ذلك سيصبّ في فائدة العدو. ويبدو لي من المؤكد أن الرئيس الجديد سرعان ما سيكتشف صعوبة تنفيذ الوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية. وذلك لأن النظام السياسي الأميركي ينطوي على توازنات ومقوّمات بالغة التعقيد لا تسمح لأيٍّ كان بإحداث عمليات التغيير بالسهولة التي يتصورها.