لقد أصبح دونالد ترامب رئيساً منتخباً للولايات المتحدة، خلافاً لكل التوقعات واستطلاعات الرأي العام التي أجرتها معظم أجهزة الإعلام الأميركية والعالمية، والتي كان معظمها قد أكد فوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في بعض الحالات بفارق كبير، وفي بعض الحالات بفارق أقل. ولكن الناخب الأميركي أسقط كل التوقعات وانتخب دونالد ترامب المرشح المختلَف حوله، حتى في صفوف كثير من قيادات حزبه الجمهوري. صحيح أن كلينتون قد حصلت على غالبية أصوات الناخبين في الانتخاب العام، ولكن ذلك لا يكفي لإيصال أي مرشح إلى سدة الرئاسة، حسب النظام الانتخابي الأميركي، وإنما العبرة بحصوله على أغلبية الولايات، وهو ما حققه دونالد ترامب وفشلت في تحقيقه منافسته. وقد خرجت جموع المتظاهرين ضد الرئيس المنتخب، في عدد من المدن الأميركية الكبيرة في تظاهرات لم يسبق لها أن استقبلت أي رئيس منتخب في اليوم الأول بعد انتخابه.. ولذلك جاءت نداءات الرئيس أوباما والمرشحة هيلاري كلينتون، ودعوتهما لأنصارهما بأن يجعلوا عملية انتقال السلطة تجري بسهولة ويسر كما اعتاد الأميركيون على ذلك، فقد هنأ أوباما الرئيس المنتخب ترامب بفوزه ودعاه لزيارة البيت الأبيض، وقال إنه وجه فريق العمل بأن ييسروا مهمة الانتقال. وبدورها قالت هيلاري في كلمة موجزة لمؤيديها إن عليهم تجاوز المرارة والصدمة التي أحدثتها نتيجة الانتخابات المذهلة، وأن يحترموا حقيقة أن خصمها في المعركة الانتخابية هو الآن الرئيس الأميركي المنتخب الواجب احترامه، وطلبت من الرئيس المنتخب أن يتعامل مع الناس بعقل مفتوح. ولكن كل هذه النداءات والتوجيهات من أوباما وكلينتون لم تستجب لها جماهير غفيرة من الأميركيين الغاضبين والمصدومين، فخرجت مظاهرات صاخبة في ولايات ومدن أميركية كثيرة رافعة شعار «اذهب ترامب»! لقد أجمع معظم المعلقين والمحللين على أن هذه التظاهرات ليست فقط بسبب سقوط هيلاري وفوز ترامب، وإنما هذه «الواقعة» فجرت «بركان الغضب» المتراكم ضد النظام الأميركي ككل، الذي يشعر الآن جيل من المواطنين الأميركيين بأنه لا يعطيهم حقهم في المشاركة والتمثيل في أجهزته، وليس الأمر قاصراً على الأقليات العرقية والملونين، وإنما يتعدى ذلك إلى غالبية جيل الشباب، من أبناء وبنات الغالبية الحاكمة البيضاء الذين استجابوا لدعوة ساندرز المرشح الديمقراطي المنسحب لمصلحة هيلاري، الذي بشر بالحركة التي يقودها ويدعو من خلالها لتغيير عميق في جذور النظام الأميركي. ومن أسباب انفجار بركان الغضب المتراكم هذا أيضاً الخوف الذي استشرى في صفوف كثير من شرائح المجتمع الأميركي حيال الرئيس المنتخب وسياساته المعلنة خلال الحملة الانتخابية، التي كرر جانباً منها أيضاً في كلمة له بعد انتخابه، وأعلن أن من أولوياته ترحيل أكثر من عشرين مليوناً من المقيمين الذين دخلوا الولايات المتحدة وعاشوا فيها لعقود من الزمن، تزوجوا فيها وأنجبوا أبناء وبنات أميركيين (بالقانون)، على رغم أن وجودهم في البلد غير شرعي.. وأنه سيوقف مباشرة دخول اللاجئين السوريين بالمخالفة لالتزام أوباما باسم الولايات المتحدة باستقبال بضعة آلاف من المرشحين منهم من قبل مفوضية الأمم المتحدة للاجئين! وأكثر ما أثار الخوف من ترامب وسياساته هو إصراره الواضح على إلغاء قانون تأمين العلاج الذي تم توفيره لعشرين مليون مواطن أميركي كانوا يعيشون من دون تأمين صحي في أغنى وأقوى بلد في العالم.. وكذلك دعوته المتكررة لمراجعة اتفاقية التجارة العالمية التي وقعتها أميركا مع أكثر من مئة دولة، وإعلانه «الفضيحة» بأن الاحتباس الحراري المهدد به كوكبنا ليس من عمل الإنسان، وأن ما اتفق عليه العالم في اتفاقية باريس لمحاربة وضبط أخطاره سينظر فيه بما يوافق المصلحة الوطنية الأميركية! هذا ناهيك عن حديثه عن حلف الأطلسي وشراكة أميركا فيه المكلفة مالياً، الأمر الذي رد عليه في وقته سكرتير الحلف (الأميركي) بأن كل دول الحلف ملتزمة بمساهماتها المالية في ميزانية الحلف برضا الجميع. والسؤال: هل سيتطور هذا الانفجار الغاضب إلى أكثر من ذلك؟ لا أعتقد هذا، إنما الأرجح أن التظاهرات ستستمر لبضعة أيام، وستكون أكثر صخباً، ولكن النظام الديمقراطي الذي يوفر لمواطنيه حق حرية التعبير عن آرائهم سيعيد هؤلاء الغاضبين إلى جادة الصواب. ولكن ذلك لا يعني أن مشاكل القيادة الأميركية الحاكمة مع جيل الغاضبين قد تنتهي.. لأن هذا الغضب ليس فورة غضب بسبب نتائج الانتخابات، ولكنه غضب متراكم ضد المؤسسة السياسية الحاكمة لعقود من الزمن، والتي هي «بطيئة الفهم» في الواقع للحقائق الأميركية المتغيرة، وخاصة أن التغيير الذي دعا إليه أوباما لم يتحقق منه الكثير بسبب عرقلة مجلس الشيوخ لمشروعاته. وهذا التغيير قد يتحقق بعد عقود قادمة.. ولكنه قادم قادم، على كل حال، كما قالت هيلاري كلينتون. -------------------- * كاتب سوداني مقيم في كندا