ماذا بعد فوز ترامب؟ بعد انتخاباتٍ شاقةٍ ومعقدةٍ تم إعلان المرشح «الجمهوري» دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية وسيصبح عند استلامه سدة الحكم في يناير القادم الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية. مرشحٌ مثيرٌ للجدل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تصريحاته مثيرة ومواقفه السياسية المعلنة أكثر إثارة، تهجم على المرأة بأكثر من تصريح وأكثر من موقفٍ، وتهجم على الأقلياتٍ بأكثر من طريقةٍ، وانتصاره أثار الكثير من الأسئلة لا داخل أميركا فحسب بل حول العالم بأسره. من الطبيعي أن يثير فوزه برئاسة أميركا أسئلةً لا تنتهي، فأميركا في النهاية هي أقوى قوةٍ عالمية شهدها التاريخ، وهذا الرجل المثير سيجلس على كرسي قيادتها لأربع سنواتٍ قادمةٍ، وسيكون على الجميع داخل وخارج أميركا أن يتعاملوا معه. ولكن كيف انتصر؟ وكيف استطاع تجاوز كل المعوقات أمامه ومن أهمها حالة العداء الواضحة له من قبل غالبية وسائل الإعلام؟ وكيف استطاع تجاوز الرفض له من العديد من المؤسسات الأميركية الرصينة؟ بل كيف تجاوز رفض العديد من قيادات حزبه «الجمهوري» ونقدهم اللاذع له؟ أحسب أن شيئاً من الإجابة يكمن في صراع الهوية الذي تعيشه الولايات المتحدة الأميركية والذي تحدث عنه بعض المحللين وعلى رأسهم ما كتبه صموئيل هنتجتون في كتابه «الهوية» فقد تحدث بصراحةٍ ووضوحٍ عن الخوف المهيمن على شريحة المواطنين الأميركيين البيض المسيحيين، وكيف أنهم لم يعودوا يتعرفون على بلادهم وبالذات تخوفهم من الهجرات المتتابعة للمواطنين الأميركيين من أصولٍ أفريقية وكذلك من هجرات المواطنين الأميركيين من أصول مكسيكيةٍ، وأن هذه الهجرات بدأت تغير في التركيبة الديموغرافية للعديد من المدن والولايات الأميركية. لقد لعب ترامب باحترافية على هذا الوتر الحساس في ذهن الناخب الأميركي، وأثبتت النتائج أن رهانه كان صائباً، وقد خرجت هذه الفئة تحديداً بأعدادٍ كبيرةٍ إلى صناديق الاقتراع وخلطوا الأوراق وأعادوا رسم المعادلات الانتخابية من جديد، وذلك بهدف «جعل أميركا عظيمةً مجدداً» كما هو شعار حملة ترامب الانتخابية. أمرٌ آخر استطاع ترامب توظيفه بقوةٍ لصالحه، وهو موضوع الخوف من الإرهاب، والخوف من الإسلام، وهو أطلق عباراتٍ عنصريةٍ ضد المسلمين داخل وخارج أميركا، وقال للمواطنين الأميركيين إنه سيكون قوياً في مواجهة الإرهاب، وبالتأكيد لن يكون أي شيء يشبه سلفه باراك أوباما. وهذه نقطةٌ جديرةٌ بالاهتمام، فقد كانت كل سياسات ومواقف أوباما تصنع من أميركا كائناً دولياً ضعيفاً ومنعزلاً ومنسحباً فتنمرت روسيا الاتحادية وعادت لتلعب دور «الاتحاد السوفييتي» من جديد وخضع أوباما، وعربدت إيران في نشر الفوضى والإرهاب في منطقة الشرق الأوسط فهرول لها أوباما خاضعاً، وعادت كوريا الشمالية للتنمر مجدداً ولم يصنع أوباما أي شيء. سبق لكاتب هذه السطور أن أشار إلى أن أميركا الأمة والدولة ستنتفض على الهوان المذلّ الذي وضعها فيه أوباما وستنتخب رئيساً قوياً لأن هذا هو منطق التاريخ ومنطق الدول وهو ما حصل ليلة البارحة بالفعل بانتخاب دونالد ترامب رئيساً. اهتمامات المنطقة تختلف عن اهتمامات الناخب الأميركي، وما يهمنا في المنطقة هو ما سيكون عليه موقف الرئيس الأميركي الجديد من أكبر تهديدٍ للمنطقة والعالم والمتمثل في سياسات إيران التوسعية ونشرها للميليشيات ورعايتها للإرهاب وسعيها الحثيث لاستقرار الفوضى؟ باعتبار هذا هو أهم ملفٍ يشغل قيادات المنطقة وشعوبها، وحجم الأضرار التي خلفتها سياسة أوباما في هذا الملف تحتاج لرئيس ينسفها من أساسها وهو على كل حالٍ ما وعد به ترامب بكل صراحةٍ ووضوح. سيحتاج الرئيس الجديد لحزبه «الجمهوري» ومؤسساته العريقة لإدارة الدولة ورعاية المصالح المتشعبة، والجمهوريون يعتبرون حلفاء تقليديين لدول الخليج العربي وبالتالي يمكن بناء تفاهماتٍ سياسيةٍ كبرى في الملفات المهمة في المنطقة والعالم، ويمكن تضميد جراح ثماني سنواتٍ عجافٍ لم تجر على المنطقة إلا الوبال. أخيراً، سيعاد في السنة القادمة ترتيب العديد من الملفات الدولية وتحديداً في المنطقة وستنتهي فترة العبث الدولي السابقة وسيكون واجباً على الدول العربية المعتدلة أن تشدّ من تحالفاتها وتقوي مواقفها وسياساتها وأن تفرض مصالحها كرقمٍ صعبٍ في أي معادلاتٍ دوليةٍ جديدةٍ في المنطقة.