قبل أسابيع من إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية التي انتهت بفوز رجل الأعمال دونالد ترامب كان السؤال الأكثر إلحاحاً في العالم العربي هو: أيهما أفضل لنا، ترامب أم كلينتون؟ وهو سؤال نبع، في حد ذاته، من ثقافة تعكس ذاتها على رؤية الآخر، وتطبعه بطبعنا، وتضفي عليه تقاليدنا السياسية، التي يلعب فيها رأس الدولة، رئيس أو ملك أو سلطان، دورا محوريا في النظام السياسي، بحكم الصلاحيات الواسعة التي تعطيها لهم الدساتير، أو بواقع الممارسات والتقاليد المتبعة على مدار عقود من الزمن، وهو ما لا يقع على هذا النحو بالنسبة للرئيس الأميركي، الذي يُحاط بأطر قانونية وسياسية وأساليب عمل تغل يده، أو تقيده، عن فعل كل ما يريد، في كل المواقف. وفي كل الأحوال يطلق المرشحون العنان لألسنتهم باحثين عما يربحون به سباق الرئاسة، فإن وصل الواحد منهم إلى البيت الأبيض تصرف بطريقة عملية جدا، ووفق الاستراتيجيات الموضوعة سلفا، وحسب توازنات المؤسسات، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يدير ظهره للرأي العام وتغيراته. وبذا يصبح من الطبيعي أن نضع كل ما قاله ترامب، في غمرة المنافسة الانتخابية المحمومة، عن علاقة بلاده بدول الخليج وإيران وسوريا محل مراجعة، فيده لن تكون مطلقة في هذه الملفات، ولن يحدث فيها تبديل تام، أو تنتقل علاقة أميركا بها، أو إدارتها لها، من النقيض إلى النقيض. ومع هذا لايخلو السؤال الذي كان يفاضل بين ترامب وكلينتون السابق من وجاهة، إذ أن للرئيس الأميركي، من حيث توجهاته وثقافته وتصوراته، دوراً في تسيير السياسات الأميركية، ولو بنسبة معينة، تتمدد وتنكمش وفق القدرات والسمات الشخصية له، والتي تفاوتت من رئيس إلى آخر على مدار تاريخ الولايات المتحدة. لكن السؤال الأهم يجب أن ينصرف إلى ماهية المحددات التي تحكم السياسة الأميركية، وكذلك الاستراتيجيات التي تنتهجها واشنطن حيال العالم العربي؟ إن أميركا، كقوة عظمى في عالمنا المعاصر، لا تتصرف ارتجالياً في سياساتها الخارجية، إنما وفق استراتيجية، تتمتع بقدر كبير من الرسوخ والاستمرارية، رغم تبدل الرؤساء، وتعاقب «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» على البيت الأبيض. وبالنسبة للعالم العربي، كانت هناك دوماً محددات تحكمت، إلى حد بعيد، في السياسة الأميركية حيال العرب، منها: ضمان تدفق النفط العربي إلى الولايات المتحدة، وتوفير الأمن لإسرائيل، وتزويد الجيوش العربية بصفقات السلاح الأميركي، وتوظيف العرب في إحداث توازن إقليمي، وأخيرا مكافحة الإرهاب، إلى جانب المحدد العام الذي يحكم علاقة أميركا بدول ومناطق إقليمية أخرى في العالم وهو تصدير السلع والقيم الثقافية الأميركية إليها، في ظل إدراك الأميركيين لأهمية القوة اللينة أو الناعمة المتعلقة بدور الثقافة إلى جانب القوى الصلبة المرتبطة بالاقتصاد والسلاح. وهذه المحددات العامة مثلت الأطر المرجعية العامة للعلاقة بين الطرفين منذ أن ملأت الولايات المتحدة الفراغ الذي تركه انسحاب بريطانيا من المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى هذه اللحظة، والتزم بها الرؤساء الأميركيون المتعاقبون، وانعكست في سياساتهم، بدرجات متفاوتة، ووفق الظروف التي تغيرت باستمرار. فهذه التغيرات كانت في بعض الخطط والسياسات، لكنها ليست في الاستراتيجية، وهي مسألة معروفة، وقد شرحتها باستفاضة كتب ودراسات لباحثين وخبراء أميركان، حيث تنقسم الاستراتيجية إلى خطط، ثم تتوزع الخطط على سياسات فرعية، وتكون هناك مرونة كبيرة في تغيير السياسات وفق الظروف المستجدة، ومرونة أقل مع الخطط، مع ثبات في الاستراتيجية. وبالتالي فإن حرية حركة رؤساء أميركا المتعاقبين حيال العالم العربي، كما هو حيال العالم بأسره، تنحصر في حيز السياسات إلى حد كبير، والخطط إلى حد ما، مع ثبات في الاستراتيجيات، والتي تدور أساساً حول تفوق أميركا كقوة عظمى. لكل هذا لا يبدو من المستساغ أن يستغرق العرب في السؤال حول شخصية الرئيس، بقدر ما يجب عليهم أن يعرفوا طريقا للتحرك والمناورة وسط هذه المحددات الرئيسة، ويلعبوا أكثر على السياسات والخطط، وألا يضيعوا وقتا جديدا في هذا المسار، لاسيما مع الظروف الصعبة التي يعيشونها، والانقسامات التي تتسع بينهم، والاستقطابات التي تزيد في صفوفهم، والتي تتطلب معالجة قبل الشروع في تبني سياسات حيال واشنطن، بما يضمن لهم حداً أدنى من الاتفاق على المصالح الأساسية والجوهرية التي تؤثر على حاضرهم ومستقبلهم قبل أن يتحركوا من رد الفعل إلى الفعل النسبي حيال السياسات الأميركية، وهي مسألة ليست مستحيلة في ضوء إقرار الأميركيين أنفسهم بأن قوتهم ليست مطلقة إنما لها حدود، وأنهم بحاجة ماسة إلى أطراف وقوى إقليمية في كل مكان في العالم حتى يضمنوا تحقيق مصالحهم.