انعقد مؤخراً منتدى «فالداي» خلال الفترة من 24 إلى 27 أكتوبر في مدينة سوتشي الروسية. وقد انتهز الرئيس فلاديمير بوتين، الذي شارك في الجلسة الأخيرة، هذه الفرصة، لتأكيد -وتبرير- مواقفه في مجال السياسة الخارجية. وكان الموضوع الأكثر إثارة للجدل هو تصرفات الجيش الروسي في مدينة حلب، التي وجه إليها بعض المشاركين انتقادات شديدة، ومن ورائها انتقدوا أيضاً الموقف الروسي بصفة عامة في الأزمة السورية. بل إن أستاذة جامعية عربية سألت بوتين عما إن كانت الحرب الأهلية في سوريا كان من الوارد انتهاؤها لولا التدخل الروسي. وخلال جلسة الطاولة المستديرة تعرض بوتين أيضاً لهجوم شديد من قبل رئيسين سابقين لكل من فنلندا والنمسا. وقد استند بوتين، ووزير خارجيته لافروف، في دفاعهما عن الموقف الروسي من هذه الأزمة، بالدفع (دون إقناع حقيقي لبقية المشاركين من غير الروس)، بدعوى مقتضيات محاربة الإرهاب، وأن التدخل الروسي قد حال دون تمكُّن تنظيمات متطرفة من الاستيلاء على السلطة في دمشق. بوتين، ووزير خارجيته لافروف كررا بطريقة معهودة في الخطاب الروسي، وبخاصة في خطاب بوتين، الإشارة إلى أن الولايات المتحدة، لم تُرد مع انتهاء الحرب الباردة، بناء نظام عالمي جديد، بل أرادت، على العكس من ذلك، تكريس نوع من الزعامة الدولية الأحادية، دون أن تضع في الاعتبار مصالح الأمم الأخرى. والحقيقة أن هذه الرؤية للسياسة الأميركية في التسعينيات من القرن الماضي، هي ذاتها التي كان يتبناها أيضاً ميخائيل جورباتشوف، حتى لو كان آخر أمين عام للحزب الشيوعي السوفييتي ينتقد هو أيضاً بوتين. ولم يتردد الرئيس الروسي الحالي كذلك في إثارة مسألة توسيع «الناتو»، ونشر منظومة الدفاع الصاروخي، وحرب كوسوفو (مذكراً بطابعها غير الشرعي من وجهة نظر القانون الدولي)، وقد ساق كل ذلك للبرهنة على وجود رغبة في الهيمنة الأميركية. وأثار كذلك التدخلات العسكرية الخارجية الأميركية (العراق، ليبيا) التي تعود إليها المسؤولية بشكل كبير في خلق أجواء الفوضى الاستراتيجية الراهنة. وعبّر بوتين عن رغبته في إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولكنه ذكّر أيضاً بضرورة وجود إجماع عريض على ذلك. ولا غنى عن الأمم المتحدة «فمن دونها، لن يكون هناك سوى الفوضى الكاملة الشاملة. ولذا فإن علينا الحفاظ على الأمم المتحدة وتقويتها»، كما ردّد بإلحاح. والمسألة الثانية كانت متعلقة بوهن وضعف أوروبا. فبوتين، مثل لافروف، أبرز أن هذه الأخيرة تنازلت عن استقلالها السياسي وتكتفي بالسير خلف الولايات المتحدة. ويشعر الروس بخيبة أمل بالغة لأن الأوروبيين لم يرفعوا العقوبات، ولذلك باتوا يرغبون في التوجه مباشرة إلى الأميركيين، الذين يعتقدون أن بأيديهم مفاتيح القرار في النهاية. وكان مؤدَّى الرسالة الثالثة أن روسيا عائدة بقوة ولن تتردد في الدفاع عن مصالحها، ولن تذعن أيضاً للضغوط الخارجية. والفترة التي عانت خلالها من حالة عجز في مواجهة المناورات الأميركية باتت من الماضي. وأكدا أن روسيا لا تسعى للهيمنة على العالم، ولكنها تتوقع، في المقابل، أن تُحترم. وهذه الرسالة هي أكثر شيء سعى المسؤولون الروس لتوصيله خلال أيام المنتدى. والتهديد بمقاطعة كأس العالم 2018 لا يبدو أنه يشغل بال المسؤولين الروس، وهم واثقون بالفعل من أن أي فريق كبير لن يرفض المشاركة في المسابقة. وعلى كل حال، فروسيا لن تغير خطوط سياستها الخارجية تلافياً لأي مقاطعة محتملة. أما الانتقادات الخارجية ضد بوتين، والآتية أساساً من وسائل الإعلام الغربية، فينظر إليها على أنها انتقادات موجهة ضد روسيا، وهي بالتالي تدعم شعبيته الداخلية، وهذا ما لوحظ في «فالداي». وحسب فلاديمير بوتين من المضحك حقاً التفكير في أن روسيا تستطيع ممارسة نفوذ وتأثير في الانتخابات الأميركية. والنجاح الذي حققه دونالد ترامب يُفسَّر، حسب رأيه، بالرفض الواسع للنخب التي هيمنت على الولايات المتحدة منذ عدة عقود. ولكن روسيا ستعمل مع أي رئيس منتخب، إن كان هذا الأخير يرغب في ذلك أيضاً، وستحترم قرار وخيار الأميركيين. وقد أراد الروس بشكل واضح إظهار أنهم ليسوا في موقف دفاع وأن ميزان القوى العالمي قد أُعيد إليه التوازن لصالحهم. ولكن الصعوبة كلها هنا تكمن في كيفية الظهور بمظهر القوي، وتجنب الظهور بمظهر الضعيف، دون التحول أيضاً في نظر الآخرين إلى مصدر تهديد.