تماماً مثلما حذر المعارضون المحافظون، للاتفاق النووي مع إيران، تبدو طهران الآن، كأنها تتحرك بشكل عدائي، لتوسيع نفوذها الإقليمي، مع قيامها في الآن ذاته بمناهضة المصالح الأميركية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ولكن، مثلما وعد أنصار الاتفاق، فإن إيران تنفتح الآن وإنْ بشكل بطيء على الغرب، وتبرم صفقات لإقامة مشاريع مشتركة معه، وتنشئ خطوطاً هاتفية مع الولايات المتحدة، وتعمل على زيادة سرعة الإنترنت، وترحب بأفواج السائحين الأوروبيين، وتخفف بعض القيود الاجتماعية المفروضة على شعبها. وهذا التناقض المحيّر، هو في حقيقة الأمر، سياسةٌ مفكَّرٌ فيها جيداً، وذات مسارين، يتبعها المرشد الأعلى علي خامنئي، وحلقة الزعماء الذين يحيطون به. وفي إطار هذه السياسة نرى الجنرالات الإيرانيين، وهم يوجهون الحرب البرية في سوريا، ونرى المستشارين الإيرانيين وهم يدربون الميليشيات الشيعية، التي تحارب في العراق وسوريا، ونرى الأسلحة الإيرانية، وغيرها من أنواع الدعم، وهي تقدم المساعدة للمتمردين الحوثيين في اليمن. وبالإضافة إلى المصادقة على سياسة أكثر عدائية من جانب إيران، لتثبيت أقدامها عسكرياً في المنطقة، فإن نظام طهران يوجه بشكل منتظم انتقادات إلى الولايات المتحدة، يَعِد فيها بأنه لن يكون هناك تخفيف في موقف إيران المناهض لـ«الشيطان الأكبر»، في الوقت ذاته، الذي يقوم فيه بفتح الباب بهدوء لرأس المال، والخبرة الغربية. وليس هناك سوى شك ضئيل في أن إيران توظف قدراً أكبر من القوة في المنطقة في الوقت الراهن. ففي ساحات المعارك في سوريا، يحارب المستشارون الإيرانيون و«المتطوعون» -الذين يكونون عادة من الأفغان والميليشيات الشيعية- ويموتون، جنباً إلى جنب مع قوات النظام السوري من أجل طرد المعارضين من حلب. وبالقرب من الموصل، يتلقى «الحشد الشعبي»، وهو يضم العشرات من الميليشيات الشيعية، الإرشادات من مستشارين آخرين لهم علاقة عادة بـ«فيلق القدس»، التابع للحرس الثوري الإيراني. ومع معاناة المنطقة من مثل هذه الاضطرابات والقلاقل، فإن الوقت الحالي لا يبدو هو الوقت الملائم، لتخفيف القيود المفروضة على المعاملات التجارية بين إيران والغرب. ولعل التغيير الأكثر وضوحاً على الإطلاق في مجال السياسة، هو أن الفصيل الإيراني المتشدد المكون من النخبة المحافظة من رجال الدين والقادة العسكريين والسياسيين، الذي ظل مهيمناً على إيران خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، قد مُني بسلسلة من الهزائم. وكانت أول هزيمة هي تلك التي مُني بها الرئيس الإيراني السابق المتشدد محمود أحمدي نجاد، الذي كان كثيراً ما يدلي بتصريحات يقول فيها «إن إيران لن تساوم أبداً على برنامجها النووي»! ولكن في عام 2012 سمح خامنئي لممثلين من طرفه، بالاتصال بالولايات المتحدة، لمناقشة إمكانية التوصل لمثل هذه التسوية. ومنذ ذلك الحين، فقد المتشددون الإيرانيون المعركة تلو الأخرى، أمام مجموعة من التكنوقراط، الذين كانوا هم المجموعة الصغيرة الوحيدة في البلاد القادرة على التحدث مع الغرب. وفي انتخابات 2013 فقد الزعماء المتشددون المعركة الانتخابية أمام حسن روحاني المصنف على أنه معتدل. وخلال عامين استغرقتهما محادثات الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة وغيرها من القوى العالمية، تحدث المتشددون ضد التوصل لأي تسوية، ولكنهم خسروا، كما خسروا أيضاً في الانتخابات البرلمانية بعد ذلك. كما عارض المتشددون الاستثمارات الأجنبية، وحريات الإنترنت والسماح بمزيد من الزيارات للأجانب، والسماح بالحفلات، وتقليل أعداد شرطة الأخلاق في الشوارع، وفي جميع هذه الموضوعات خسروا معركتهم، أو جرى تجاهلهم إلى حد بعيد. ولكن هذا ليس بالأمر المستغرب، كما يقول محللون: فكل ذلك نابع من قرار خامنئي بسحب إيران، الآن على الأقل، بهدوء بعيداً عن التمثيل المتصلب لعقيدتها الثورية، وإنهاء العزلة التي أعاقت اقتصاد البلاد، وأحبطت الإيرانيين الشبان الذين يتوقون إلى العيش في دولة «طبيعية». ولكن خامنئي، البالغ من العمر 77 عاماً، يبدو مصمماً، نظراً إلى أنه يمتلك السلطة الكاملة، على إجراء التغييرات الضرورية كي تقوم إيران بإعادة ترتيب علاقاتها مع العالم، كما يقول محللون غير بعيدين من النظام. فـ«من رأى خامنئي أننا يجب أن نكون مثل الصين» هذا ما يقوله حميد رضا تاراجي، المحلل المقرب من المتشددين، الذي يوضح ما يقصده بقوله «أي أن تكون لنا علاقات اقتصادية قوية مع الغرب ولكن من دون نفوذه السياسي، ومن دون الاستعمار الجديد»! غير أن «الكثير من الأشياء في إيران تُقال للاستهلاك المحلي» هذا ما يقوله «أمير كافيان»، المحلل السياسي المقرب من حركة الإصلاح الإيرانية، الذي يضيف قائلًا: «لا ينبغي أن نأخذ كل شيء يقال في إيران على محمل الجد، وعلينا أن ندرك أن الأفعال ذ توماس إردربريتك صحفي هولندي يعمل مديراً لمكتب «نيويورك تايمز» في طهران يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»