من حق الإنسان العربي أن يبدي قلقه على الأوضاع السياسية المحيطة بمنطقته، بسبب ما يراه من تحركات دولية وإقليمية مريبة وبسبب حالة «الاسترخاء السياسي» العربي التي ينبغي على أهل السياسة العمل من أجل أن لا تطول أكثر قبل أن تحدث مفاجآت تعيد لنا بعضاً من ذكريات اتفاقية سايكس- بيكو المشؤومة. هذه كانت إحدى خلاصات منتدى «الاتحاد» الحادي عشر الذي عُقد الأسبوع الماضي في العاصمة أبوظبي. وبنظرة موضوعية سريعة إلى ما يحدث حولنا، فإن الكل يراجع سياساته القديمة، سواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة التي بدأت تركز على جنوب شرق آسيا، حيث التمدد الصيني، أو بروسيا الاتحادية العائدة إلى المنطقة بقوة من خلال السعي لبسط نفوذها في المشرق العربي ومحاولة فرض قراراتها، حيث أرسلت منذ يومين سبع قطع بحرية جديدة إلى البحر الأبيض المتوسط. أما إيران التي تصالحت مع الغرب، فقد بدأت في ترتيب علاقاتها مع العرب والغرب بعد الاتفاقية النووية، واختلف عليها العرب كونها مصدر تهديد أم جار مسالم! وفي غضون ذلك استغلت طهران الوضع وقامت باستعراضات للقوة في المنطقة بطريقة مريبة. ولو نظرنا إلى تركيا فرغم أنها أقل عنفاً من إيران، فإنها تبقى دولة إقليمية كبرى لا تريد الخروج من هذه «الفوضى غير الخلاقة» من دون نصيب يخصها مما يحدث. وبمعنى آخر فإن الكل حالياً أخذ يعيد تنظيم قواعد اللعبة السياسية، بما يتناسب مع مصالحه ويعمل على تفعيل أدائه السياسي في ما يتعلق بالمنطقة العربية، وهي ساحة يمكن للكل أن يلعب فيها كيفما شاء، ودون أي عراقيل تقريباً؛ فهي تعاني دائماً من الفراغ السياسي العربي، وهو الفراغ الذي عادةً ما يسعى الآخرون لملئه. هذه الصورة دفعت بالمثقفين العرب المجتمعين في أبوظبي قبل أسبوع، إلى تأكيد الحاجة إلى إجراء مراجعات عربية مماثلة تنعش الأداء السياسي العربي بعدما اتضحت أشياء كثيرة كلها ضد المنطقة العربية. والمثير أن هذه الأشياء تحدث على أرض الواقع وليست مخططات مخفية وفي غرف مغلقة، كما كان يحدث أثناء توقيع اتفاقية سايكس- بيكو قبل مئة عام. والمراجعة المشار إليها تتمثل في وضع حد للتدخل الإقليمي، حيث لم يكن ليحدث «الافتراس» الإيراني من خلال التدخل في شأن الدول العربية والتمدد في بعضها كأنها الحديقة السياسية الخلفية لطهران، ولم يكن كذلك لتركيا أن تفكر بالتدخل في العراق أو أن تتعامل روسيا مع الوضع في سوريا كأنه شأن روسي داخلي يخصها.. لو أن العرب على موقف سياسي واحد، بحيث يكون أي تهديد لأي دولة عربية كأنه تهديد للأمن العربي بأكمله، وبحيث يوجد توصيف محدد يحدد مَن هو العدو المشترك لهذه الدول. ومع أن الأداء السياسي الخليجي، ممثلاً في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، يعطي الأمل لمواطني الدول العربية في إمكانية الحفاظ على الكيان العربي من خلال التحرك النشط لصد التدخلات الخارجية والعمل على منع انفراط الوضع الأمني في بعض الدول العربية، إلا أن ما نراه يحدث يؤكد الحاجة إلى استعادة الثقل السياسي العربي، سواء من خلال الجامعة العربية أو من خلال العمل على تفعيل دور الدول العربية التي كانت تمثل يوماً ما محوراً عربياً لتقف في وجه الأطماع الإقليمية. لكن قبل ذلك على العرب تعلم إدارة الاختلافات السياسية العربية بطريقة لا تمثل «ثغرة» يستغلها الآخرون. القلق على المصلحة العليا لا يعني عدم وجود اختلافات سياسية؛ فالأصل هو وجودها، لكن المشكة تكمن في سوء إدارتها، والأخطر من الاختلافات العربية هو الانفعالات المرافقة لها، والتي غالباً ما تتسبب وسائل الإعلام في تهييجها لدى الرأي العام العربي ضد بعضه البعض وتصعيد بعض الاختلافات في المواقف إلى درجة تجعلها تبدو كما لو أن صداماً سياسياً أو عسكرياً على وشك أن يحدث، وهو ما يعطي مؤشراً بأن الاختلافات العربية سريعاً ما يمكنها أن تتحول إلى خلافات أو أزمات معقدة يستغلها الآخرون لتحقيق مصالحهم. والسؤال الأصعب الذي واجهه المجتمعون في منتدى «الاتحاد» هو: إلى أين العرب ذاهبون؟ حيث كان الكل على وجه التقريب حائراً في تقديم الإجابة، إذا لم يستطع أحد أن يبين نهاية ما يحدث في منطقتنا، وإن كان الجميع متفقين على أن هناك سياقاً جديداً ينتظم خريطة المنطقة. مع أن الثابت للجميع في ظل هذه الحيرة أن الأمور وصلت إلى درجة باتت تبعث على القلق؛ فالعرب لا يتحركون بحجم الخطر الذي يهددهم، ولا بخطوات الآخرين المتسارعة في التمكن من المنطقة. والأخطر من كل ذلك هو أن المعايير السياسية بينهم انقلبت وأصبح من السهل أن تكون دولة مثل إيران أقرب لبعض العرب من عرب آخرين، أو أن تستخدم التقرب منها وسيلةً لتخويف بعض العرب أيضاً!