«إنَّ الباحث العربي في هذه العقود التي نعيشها»، يقول الدكتور محمد مسعد ياقوت، الباحث المتخصص في دراسة واقع البحث العلمي العربي، «لا يتمتّع بكامل الحرية، أثناء ممارساته البحثية، فهو مقيد بكثير من الجهات الرقابية والإدارية التي تتصف بضيق الأفق والبيروقراطية، فالجهات الرقابية تحول دون قيام الأساتذة بتدريس كتب بعينها، وتفرض شروطاً للحصول على تصاريح لإجراء استبيانات ودراسات مسحية، الأمر الذي يعمل على إعاقة البحوث في مجال العلوم الاجتماعية». كما أن الباحث لا يستطيع أن يعلن نتائج بحثه علانية، وبشكل رسمي، طالما أن هذه النتائج لا تتفق ورؤية الجهات الرسمية والسياسية والإدارية. لأساتذة الجامعات في الغرب ومراكز الأبحاث فيها دور خطير معروف في كل مجالات الحياة الأوروبية والأميركية، فهل للجامعات في الحياة العربية نفس الدور؟ لقد اكتشف المفكرون في ثقافتنا منذ بداية القرن التاسع عشر أن التربية والحرية والتقدم، أمور مترابطة يصعب الفصل بينها. فالأمة التي تتقدم التربية فيها تشهد التقدم والتمدن، كما قال رافع الطهطاوي، «على وجه تكون به أهلاً للحصول على حريتها». وتكثر في البلدان العربية اليوم الجامعات، لكنها رغم ثراء بعض الدول الداعمة لها، تعجز عن اللحاق بجامعات العالم البارزة. ولقد طالعت قائمة Top 1000 Universities، Cwur، وهي مؤسسة مرموقة في مجال تقييم الجامعات، عن أفضل ألف جامعة عبر العالم، فوجدت الكثير من الجامعات الأميركية، والإنجليزية، واليابانية، والهولندية، والصينية، وحتى الإسرائيلية ضمن أفضل مئة جامعة.. ولم أجد جامعة عربية واحدة.. لعام 2015! الباحثون يشيرون إلى تردي أوضاع «الحريات الأكاديمية» في بلدان العالم العربي، للأستاذ والطالب على حد سواء. حرية الأستاذ في البحث والنشر، وفي التواصل مع المجتمع المحلي والخارجي. حرية الطلاب، يقول باحث، «تعني حريتهم في تكوين استنتاجاتهم بناءً على دراساتهم، والتعبير عن آرائهم»، وحقهم في المشاركة في إدارة شؤون كلياتهم عبر هيئات طلابية. (السلطوية في التربية العربية، د.يزيد السورطي، الكويت، عالم المعرفة 2009، ص 68). ما الحرية الأكاديمية؟، يتساءل الباحث نفسه، ويجيب: أنها «تعني غياب القيود، والإكراه، والإجبار، والقهر، عن نشاطات البحث والدراسة والتدريس في الجامعات ومراكز البحث». ويميز بعض الباحثين بين «الحرية الأكاديمية» و«الحريات العامة المدنية». فهذه الثانية حق لكل مواطن، أما الحرية الأكاديمية، فهي ميزة لأستاذ الجامعة وحده. «فأستاذ الجامعة يتمتع بوصفه مواطناً بحقه في الحريات العامة، وفي الوقت نفسه يتمتع أيضاً بميزة الحرية الأكاديمية بحكم عمله في الجامعة». (ص66) وتتكون الحرية الأكاديمية من ثلاثة عناصر رئيسة، يراها الدكتور السورطي وآخرون في حرية أعضاء هيئة التدريس في البحث والنشر، وفي الاستقلال الإداري والمالي والثقافي للجامعة، وأخيراً في حرية الطلاب. وقد اعترض بعض الباحثين على فكرة اعتبار استقلال الجامعة عن الحكومة والإنفاق العام جزءاً من الحرية الأكاديمية، «ففي كثير من المواقف كانت هناك جامعات مستقلة، لكنها لم توفر حرية البحث العلمي، في حين أن هناك جامعات حكومية قدست حرية البحث عن الحقيقة والتعبير عنها». ويرى الدكتور عبدالخالق عبدالله أنه «عندما تتحقق للمؤسسات الجامعية والبحثية الاستقلالية، وعندما يتم الالتزام بحقوق وامتيازات الأكاديميين والباحثين، وعندما يتوافر للعلم والتفكير العلمي الحرية اللازمة، عند ذلك فقط تكتمل محاور الحرية الأكاديمية، وتبرز في أوضح صورها ومعانيها. هذه الحرية الأكاديمية المكتملة هي غاية لا تدرك في كل المجتمعات، كما أنها إذا تحققت في بعض الأوقات، وفي ظروف ومعطيات محددة، فإنها لا تتحقق في كل الأوقات، وتحت كل الظروف»، (د.السورطي، ص68). لقد عرفت منطقتنا أقدم الحضارات، وكانت فيها أول الأنظمة التعليمية في حضارات مصر والعراق والشام، كما عرف العالم الإسلامي الجامعات الدينية والعلاقة الوثيقة بين الطالب والأستاذ في مصر وتونس والمغرب واليمن والشام والعراق وإيران وأواسط آسيا والهند. فهل عرفت هذه المعاهد الدينية مثلاً التسامح الديني والمذهبي في التدريس؟ وهل كانت تتقبل حرية الأستاذ الشيخ المدرس في دفاعه عن حجة فقهية أو مناصرته لمذهب معين واعتراضه ونقده لمذهب آخر؟ وهل كانت هذه الحريات تشمل الطلبة في حلقة التدريس؟ وهل كان يقوم بالتدريس في هذه المعاهد أساتذة غير مسلمين، كما نرى في جامعات الغرب اليوم أعداداً كبيرة من الأكاديميين غير المسيحيين، من المسلمين واليهود وغيرهم؟ أي باختصار، هل عرفت معاهدنا العريقة مظاهر الحرية الأكاديمية، أم أنها ظاهرة جديدة لا بد أن نفهمها ونتفاعل معها ونستفيد منها؟ وهل كانت الحرية الأكاديمية في جامعاتنا في بداية القرن العشرين، وزمن الاستعمار «وحكومات ما بعد سايكس بيكو»، أوسع وأعمق للأساتذة والطلاب، ثم تردى الحال إلى ما نراه اليوم؟ وما أسباب تفشي «القمع الأكاديمي»، بوليسية بعض الأنظمة، أم كثرة السكان وفشل التنمية، أم تكدس الطلاب وازدحام الفصول، أم صراع التيارات وانتشار التعصب والتشدد.. أم ماذا؟ وما واقع الحرية الأكاديمية العربية اليوم؟ سنجيب عن ذلك في مقال قادم. خليل علي حيدر* * مفكر -الكويت