يتردَّد مصطلح «دولة الرفاه» في الأدبيات الصحفية الخليجية والعربية باستمرار، فيما يغيب مصطلح «المجتمع المدني» بالمقابل، ولكأنهما خصمان لا يمكن أن يتلاقيا! فهل «دولة الرفاه» ضد المجتمع المدني؟ وهل أحدهما نقيض للآخر؟ تُعَرّف «دولة الرفاه» بأنها الدولة الديموقراطية المتطورة، التي تستخدم نظام السوق، وتتعهد بتوفير احتياجات مواطنيها من خلال تأمين حد أدنى من الدخل، التغذية، العلاج المجاني، التربية والتعليم، السكن، وتوفير العمل.. إلخ. وقد التبسَ هذا المفهوم في البلاد العربية، ففُسِّرَ على أنه «دولة الرفاه الاجتماعية». بينما تم تبني هذا المفهوم (Welfarestate) بعد الحرب العالمية الثانية، واعتمد على الرأسمالية و«الليبيرالية الاجتماعية»، لكن «المحافظين الجُدد» لم يرتاحوا لهذا الاتجاه، وطبَّقوا اتجاهاً جديداً يعتمد على انفتاح السوق، والتخلي عن برامج الرعاية الاجتماعية، حيث يتحمل المواطن عبءَ الأزمات الناتجة عن سياسيات الرأسمالية. وقد دار حديث طويل في منطقة الخليج العربي حول «دولة الرفاه»، وشروطها السياسية والاقتصادية والإنسانية، وما إذا كانت تعني ضمان الوظيفة، التعليم، والعلاج.. لمواطنيها؟ وتم النظر إلى وجود بعض من ملامح «دولة الرفاه» كدليل على وجود هذه الدولة بالفعل، حتى في ظل غياب الشروط السياسية، بما في ذلك فرض الضرائب نظير المشاركة الشعبية، وظل هذا المفهوم سائداً حتى اليوم. ويلاحظ أيضاً أن المبالغة في سياسات «دولة الرفاه» أوجدت حالاتٍ تقترب من الفساد الإداري أو «الهدر» الذي لا طائل منه، ويُحمل المجتمع عبئاً نتيجة سوء استخدام الموارد، وهذا ما حدا ببعض الدول إلى إنشاء لجان أو هيئات لمحاربة الفساد، وحث مواطنيها على «ترشيد» استخدام «نعماء دولة الرفاه»، كون الثروة الوطنية من حق الأجيال القادمة أيضاً. وقد اضطرب مزاجُ المواطنين في بعض الدول الخليجية عندما أعلنت سياسات تقشفية بسبب هبوط أسعار النفط، مما قد يؤثر على أصحاب الدخول البسيطة، وعلى الخدمات المجانية التي تُقدمها «دولة الرفاه» الخليجية. أما «المجتمع المدني» فهو مصطلح يدل على وجود مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة أو المستقلة نسبياً، والتي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، أو لتحقيق منفعة جماعية للمجتمع ككل. وتلك التنظيمات ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف. ولأن المجتمع العربي، في أغلبه، يقوم على الطبقية وتصارع الآراء والمصالح، وعلى التجاذبات بين رجال الأعمال وزعماء القبائل وبين الدولة.. فإن مفهوم «المجتمع المدني» لم يصبح بعد ذا دلالة على الفعل المدني، وهو مُغاير لمفهوم «أنطوني جرامشي» الذي ركَّز على المفاهيم غير الاقتصادية لـ«المجتمع المدني»، كونه منفصلاً عن المؤسسات الاقتصادية للمجتمع، ويرتكز على المؤسسات الثقافية والاجتماعية وأنشطة المجتمع. وباختصار: كانت نظرة «جرامشي» و«هابر ماس» تعني فصلَ النواحي الاجتماعية والثقافية عن النواحي السياسية والاقتصادية، إذ لكل من هذه النواحي دائرته الخاصة، فالسياسة لها السلطة والإدارة، أما التراكم فيكمن في الاقتصاد، والتواصل الحر والمفتوح في المجتمع المدني. وهذا المفهوم غير وارد أو مُطبّق في العالم العربي، الذي تغلب عليه «القبضة السياسية والأمنية»، مقابل الانفتاح الذي تتسم به مؤسسات المجتمع المدني. وفي الدول العربية الأكثر فقراً لا وجود لـ«دولة الرفاه» ولا أثر لخدمات «المجتمع المدني»، لأن سلطة العسكر هي الغالبة، وهي لا تسمح بأي «مشاركة» في اتخاذ القرار، أو حتى الاقتراب من فضاءاتها، كونها تركِّز في المقام الأول على حماية النظام، حتى ولو أدى ذلك إلى هدم المجتمع، كما أن منطق «الشمولية» لبعض الأنظمة العربية يتعارض مع قيم «المجتمع المدني»، والتي لا يمكن أن تزدهر إلا في فضاء الديموقراطية والتعددية، كما هو الحال في أوروبا الحديثة، والتي أوجدت تلاقياً واضحاً بين «المجتمع المدني» و«دولة الرفاه».