خلال أكثر من عام تحولت روسيا إلى لاعب رئيس مؤثر في أزمات وملفات الشرق الأوسط. ولا يقتصر الدور الروسي على سوريا بل يتمحور حول إنشاء محور روسيا -إيران -العراق -سوريا -«حزب الله»، وغرفة عمليات مركزية للعمليات المشتركة. ونرى التمدد الروسي في سوريا وعودة الدفء للعلاقة الروسية التركية وتطور العلاقة الاستراتيجية مع إيران. وهناك تقارب مصري روسي شهدنا تجلياته بتصويت مصر لمشروع قرار روسيا في مجلس الأمن حول سوريا. ويوظف حلفاء إيران التحالف مع روسيا، حيث أرسلت إيران فرقاطتين إلى البحر الأحمر قرب سواحل اليمن، في تحدي لليمنيين ولقوات التحالف العربي وفي رسالة واضحة إلى واشنطن عن إمساك الإيرانيين بملفات المنطقة، وضمنها قوس الأزمات المتعدد الرؤوس؛ من الأبيض المتوسط إلى الخليج العربي إلى البحر الأحمر ومضيقي هرمز وباب المندب.. وذلك بعد استهداف الحوثيين الملاحة الدولية في البحر الأحمر، حيث ردت أميركا بتدمير رادارات في مناطق سيطرة الحوثيين. لقد تحولت روسيا حالياً إلى عامل اضطراب وعدم استقرار في المنطقة، وذلك بتصميمها على تسوية حلب بالأرض وارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية. وألغى الرئيس بوتين زيارته الرسمية لفرنسا بعد الفيتو الروسي في مجلس الأمن ضد وقف إطلاق النار في حلب، وعقب اتهام الرئيس الفرنسي لروسيا بارتكاب جرائم حرب في سوريا، ومطالبته بمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم أمام محكمة الجنايات الدولية، ووصفه حلب بـ«المدينة الشهيدة»، كما وصفت المندوبة الأميركية الدائمة في الأمم المتحدة القصف الروسي لحلب بـ«العمل البربري». لكن روسيا لا تأبه بردود الفعل الدولية؛ فقد عادت مقاتلاتها لتقصف بعنف وتُزهق أرواح العشرات يومياً في استراتيجيتها للأرض المحروقة. وهكذا تتعمق الحرب الباردة بين الغرب بقيادة أميركا (ومعها بريطانيا وفرنسا وحلف «الناتو») وبين روسيا التي تحولت إلى لاعب مؤثر في ملفات الشرق الأوسط، وهي تتحالف مع إيران وتتصالح مع تركيا وتتقارب مع مصر، مما يغير دينامكية التوازنات الخاصة بالمأساة السورية. وفي أجواء الحرب الباردة المحتدمة، وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» روسيا بـ«الدولة الخارجة عن القانون»، وذلك بعد ما أبدته من تعنت وإصرار على مواصلة القصف. خلال أكثر من عام تحولت روسيا إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية وباتت شريكاً استراتيجياً لبعض دول في المنطقة، وقد أصبحت تحظى بقواعد عسكرية، كما في سوريا (قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس العسكري). وتسعى روسيا للحصول على قواعد عسكرية في مصر (سيدي براني) في المتوسط، وفي إيران (قاعدة همدان الجوية). وفي محاولة لاستعادة الحقبة السوفييتية تسعى روسيا لاستخدام قواعد بحرية في فيتنام وكوبا، ولاستخدام هذه الدول في مواجهة أميركا. لا غبار على تحدي بوتين الولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي، خاصة في الجوار القريب مثل أوكرانيا وجمهوريات البلطيق. وهكذا يعود الدب الروسي لمقارعة الولايات المتحدة. وفي خطوة تصعيدية، أكدت روسيا الأسبوع الماضي، نقل صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية من طراز اسكندر، إلى منطقة كالينينجراد على الحدود مع بولندا وليتوانيا (عضوان في الناتو) رداً على نشر الولايات المتحدة لأنظمة الدفاع الصاروخي في البلدين. واستكملت روسيا تسليم المنظومة الصاروخية أس-300 لإيران، ما يحصن المنشآت الإيرانية (العسكرية والنووية) من أي اعتداء، ويقوي مواقف إيران لممارسة مزيد من التصعيد في ملفات المنطقة، خاصة في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وبذلك تقول إيران للولايات المتحدة بأنها تمسك أوراقاً مهمة في خضم الفوضى التي تجتاح المنطقة، خاصة في سياق التحضيرات لمعركة تحرير الموصل من قبضة «داعش»، بما تملكه طهران من نفوذ على مليشيات «الحشد الشعبي» الطائفية التي تصر على المشاركة بغية تأجيج النفس الطائفي البغيض، خاصة بعد التهديدات الطائفية التي أطلقها قيس الخزعلي- زعيم مليشيا «عصائب أهل الحق» (أحد مكونات «الحشد الشعبي»)- حين قال إن تحرير الموصل هو «انتقام وثأر لقتلة الحسين؛ لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد»! وهكذا تزيد استراتيجية روسيا في المنطقة حجم الاحتقان والمواجهة، وبالتالي تُسخّن الحرب الباردة على إيقاع استقطاب طائفي وتفتيت وتقسيم ودعوة إلى سياسة المحاور، مستفيدة في ذلك من التراجع والانكفاء الأميركي وغياب المشروع العربي.