تُعرّف الصحة على أنها حالة متكاملة، ومتناسقة، من العافية والسلامة، البدنية والعقلية والاجتماعية، وليس مجرد الخلو من الأمراض والإعاقات، وهو ما يؤكد على أهمية العافية والسلامة العقلية والنفسية لبلوغ الحالة الصحية المثالية. هذه الفكرة أو الفلسفة المركزية، شكلت إحدى المحاور الأساسية ضمن الأنشطة والفعاليات التي أقامتها العديد من المنظمات والهيئات بداية الأسبوع، تزامناً مع اليوم العالمي للصحة العقلية (World Mental Health Day)، والذي يحل كل عام في العاشر من شهر أكتوبر. وقد يندهش البعض من حقيقة أن أكثر من 450 مليون شخص حول العالم، يرزحون حالياً تحت نير العبء المرضي للاضطرابات العقلية والنفسية، كما يحاول سنوياً 10 إلى 20 مليون شخص الانتحار، لينجح قرابة المليون منهم في قتل أنفسهم. ويُقدر البعض بأن معدلات الإصابة بالاضطرابات العقلية، ستتزايد في غضون العقدين القادمين، لتحتل مرتبة متقدمة جداً على قائمة الأمراض والعلل التي تصيب أفراد الجنس البشري. ومن بين أعضاء هذه القائمة يحتل الاكتئاب أهمية خاصة، في ظل الإحصائيات التي تشير إلى إصابة 350 مليون شخص بالاكتئاب، ويليه في مدى انتشار الاضطراب المعروف بثنائي القطبية (Bipolar Disorder) بـ60 مليون ضحية، ثم العته أو الخرف بحوالي 50 مليون، ثم الشيزوفرينيا وباقي أنواع الذُهانات بـ21 مليون، وفي نفس الوقت تشهد مجموعة اضطرابات النمو والتطور العقلي والنفسي بما في ذلك مرض التوحد، زيادة هي الأخرى. ويتطلب التعامل مع هذا المد المتزايد من الاضطرابات العقلية والنفسية، فهم محددات الحالة الصحية النفسية، أي العوامل التي تؤثر فيها سلباً وإيجاباً، وتزيد أو تقلل من احتمالات تعرضها للاضطراب، وتترك بصمتها على حدة وشدة هذه الاضطرابات في حال وقوعها. فعلى سبيل المثال، لا يمكن رد الإصابة بتلك الاضطرابات إلى الصفات والسمات الشخصية فقط، مثل القدرة على التحكم في الأفكار، والعواطف والمشاعر، والسلوك الفردي، والتفاعل مع الآخرين، بل يجب أيضاً الأخذ في الاعتبار العوامل الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والبيئية والسياسية، مثل السياسات الوطنية، والضمان الاجتماعي، ومستوى المعيشة، وظروف العمل، والدعم الاجتماعي. كما يعتبر التوتر، والوراثة، والتغذية، والتعرض للأمراض المعدية أو الملوثات البيئية، قبل وأثناء وبعد الولادة، من العوامل الرافدة للاضطرابات العقلية. وللأسف، لا توفر الغالبية العظمى من نظم الرعاية الصحية حول العالم، الاستجابة الكافية –على صعيد المصادر المهنية والمالية- للتعامل مع العبء المرضي الناتج عن الاضطرابات العقلية، وهو ما أدى بالتبعية إلى تعاظم الفجوة بين الحاجة للعلاج والرعاية، وبين كم ونوع المتاح منهما. ففي الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، لا يتلقى من 75 إلى 85 في المئة من المرضى النفسيين أي نوع من العلاج لمرضهم، وهو ما ينطبق أيضاً على 35 إلى 50 في المئة من هؤلاء المرضى في الدول الغنية والصناعية. ومما يزيد الطين بلة، أنه حتى في جزء كبير من الحالات التي يتوافر فيها مثل هذا العلاج، نجد أنه دون المستوى المطلوب على صعيد النوعية، والكفاءة والفعالية. وبخلاف العلاج الطبي، يحتاج المرضى العقليون للدعم والرعاية الاجتماعية، مثل توفير البرامج التعليمية التي تتناسب مع احتياجاتهم الخاصة، وتوفير السكن وفرص العمل المناسبة والضرورية لتمكينهم من الحياة والمشاركة الفاعلة في مجتمعاتهم. وبناء على هذا الموقف برمته، تضمنت خطة العمل للصحة العقلية (Mental Health Action Plan)، والتي صدقت عليها جمعية الصحة الدولية التابعة للأمم المتحدة، على أربعة أهداف رئيسية، بدأ تنفيذها عام 2013 وتستمر حتى عام 2020. هذه الأهداف الأربعة هي، أولا: زيادة كفاءة وفعالية إدارة واستغلال مصادر الرعاية الصحية النفسية المتاحة. ثانياً: توفير المصادر المهنية والفردية، وباقي المتطلبات الضرورية للرعاية الصحية النفسية ودمجها مع خدمات الرعاية الاجتماعية. ثالثاً: تطبيق وتفعيل استراتيجيات هادفة لتحقيق الوقاية ضد الإصابة بالاضطرابات العقلية، ورفع مستوى ونوعية الصحة النفسية من الأساس. رابعاً: دعم ومساندة نظم المعلومات الصحية، والدراسات والأبحاث المتعلقة بالصحة النفسية وأمراضها. ويحتل تحقيق هذه الأهداف واستيفائها، أهمية بالغة، ضمن الجهود الرامية لرفع مستوى الصحة العامة من المنظور الدولي. كنتيجة لفداحة الثمن الإنساني والاقتصادي للأمراض والاضطرابات العقلية، والناتج عن إصابة مئات الملايين من البشر بها، وكونها كثيراً ما تكون أمراضاً مزمنة، يصعب علاجها، في ظل خلفية ثقافية تنظر للمريض نظرة سلبية، وتلقي عليه بجزء من اللوم -وأحياناً باللوم كله- خلف وقوعه ضحية لها.