يمكن التخفف من غلواء العولمة عن طريق قدرة الأنا على الإبداع بالتفاعل مع ماضيها وحاضرها، بين ثقافتها وثقافات العصر، ولكن ليس قبل عودة الثقة للأنا بذاتها، وليس قبل الانبهار بالآخر كنقطة جذب لها وإطار مرجعي لثقافتها. التفاعل في الواقع الخصب، وإحضار الماضي والمستقبل في الحاضر هو السبيل للمزج العضوي بين الخصوصية والعولمة وصهرهما في أتون الواقع الجديد ومتطلبات العصر. وإذا كان الصراع بين الخصوصية والعولمة هو في الحقيقة صراع على السلطة في المجتمع بين فريقين متخاصمين: الماضوية والعلمانية، فإن المدخل الأيديولوجي لكليهما يمكن تعريته والعودة إلى المعيش ومطالبة كل من الفريقين بالاستجابة لتحديات العصر. ففي الواقع يتم انصهار الفكر. ولا فرق بين أن يتم تحرير الأرض باسم الخصوصية، وبين أن يتم دفاعاً عن الحريات العامة للأفراد والشعوب كما هو الحال في فلسفة التنوير. ولا ضير أن يتم تحقيق العدالة الاجتماعية باسم الزكاة والتكافل الاجتماعي وحق السائل والمحروم وحق الفقراء في أموال الأغنياء، والاستخلاف والشركة، وبين أن يتم ذلك باسم الاشتراكية أو الماركسية أو النزعة الإنسانية. ولا حرج في أن تتم وحدة الأمة باسم التوحيد وبين أن تتم باسم القومية أو وحدة النضال العالمي. ولا خوف من أن يتم الدفاع عن الهوية والخصوصية الثقافية باسم الأصالة كما يريد أنصار الخصوصية أو باسم الثقافة الوطنية كما يريد أنصار الثقافة العالمية وكما اتضحت في الأدبيات الاشتراكية. ولا ضرر كذلك في أن تتم تنمية الموارد البشرية باسم تسخير قوانين الطبيعة لصالح البشر وبين أن تتم باسم التقدم والتصنيع. فالغاية واحدة وهي السيادة على الأرض. ولا فرق أن يتم حشد الجماهير باسم الأمانة التي حملها الإنسان وأشفقت الجبال والأرض والسماء منها وبين أن تتم باسم النضال ووحدة النضال العالمي للعمال، وتحالف قوى الشعب العامل. فالغاية العملية واحدة وإن اختلفت الأطر النظرية. التعددية النظرية إذن ممكنة. إذ لا يمكن توحيد أفكار البشر وإن أمكن توحيد قلوب الناس. قد يفكر كل إنسان بطريقة وإن كان الهدف مع الآخرين واحداً. ولذلك تساءل الأصوليون القدماء: هل الحق واحد أم متعدد؟ وأجابوا: الحق نظري متعدد، والحق العملي واحد. فالأطر النظرية عند الناس متعددة، والأهداف العملية بالنسبة لهم واحدة. ففي الواقع ينصهر الفكر، وفي التغير الاجتماعي يتحقق الخطاب. والوفاق الوطني تجميع للجهود وبذل للطاقة حتى ولو كانت المداخل النظرية متعددة. وهنا يبدو الخطاب الأيديولوجي هو الظاهر الذي يحتاج إلى تأويل، وفي الواقع تأويله. وهو المجاز وفي المجتمع حقيقته. وهو المجمل وفي الفعل بيانه. وهو المتشابه وفي حياة الناس أحكامه. قد يكون الخلاف في اللفظ بين الخطابين، خطاب الخصوصية وخطاب العولمة، هذا يستعمل ألفاظ القدماء، وذاك يستعمل ألفاظ المحدثين. وقد يكون في المصدر وكلاهما لغة، ولا مشاحة في الألفاظ أو الاصطلاح كما يقول الحكماء. هذا يستمد فكره من التراث، والآخر يستمد فكره من الحداثة. وكلاهما نقل، والخلاف فقط فيمن ينقل عنه. وقد يكون في المنهج، هذا يستعمل المنهج الاستنباطي، يستنبط مصادره من أصول يقينية معطاة سلفاً، والآخر يستعمل المنهج الاستقرائي، يستقرئ مقاصده من مصالح الناس واحتياجات العصر. كلاهما منهج واحد فلا فرق عند القدماء بين من يأتي من أعلى ومن يصعد من أسفل، بين ما يأتي من الدين وما يصعد من بداهة العقل وإدراك المصلحة كما تحقق ذلك في عُمَر رضي الله عنه، مُحدِّث الأمة. وقد يكون في الإحساس بالزمان وحركة التاريخ، هذا يرى أن الماضي أفضل من الحاضر وأن السلف خير من الخلف، والآخر يرى أن المستقبل أفضل من الماضي، وأن الله يبعث للأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها، وأن الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع، والتنافس في الخيرات. فالسابقون السابقون. هذا إذا خلصت النوايا، وصفيت القلوب وزهد الناس في السلطة وراعوا مصالح الناس، وحرصوا على دور الأمة في التاريخ. د. حسن حنفي* * أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة