جدلية الوطن والانتماء إليه ليست جديدة الطرح، حسب ما يعتقد البعض، لكنها بعيدة في التاريخ بعمق الفكر المستجد لدى الناس. لعلّي ألطف هذه المقدمة الساخنة بأبيات شعر في الغزل قال فيها الشاعر: ليست بأوطانك اللاتي نشأت بها ... لكن ديار الذي تهواه أوطانُ فهناك وطن نشأ فيه الإنسان، وآخر هو وطن من أحب، لكن حبه جعل وطن الحبيب أحب إليه من وطنه الأصلي. للوطن معنيان مادي ومعنوي: الوطن المادي هو ما اكتسبه الإنسان بالميلاد عادة، ويثبت ذلك في وثائقه الرسمية حيث يحمل في الغالب الإنسان جنسية أو هوية تلك الأرض. الجانب المعنوي من الوطن يتلخص في القيم والأخلاق والأفكار التي يتربى عليها الإنسان في وطنه عبر محاضن التربية المتعارف عليها، والتي تبدأ بالأسرة ثم المدرسة فالجامعة، كما أن أجهزة الإعلام الوطنية لها دور لا يُستهان به في هذه التنشئة. ومن يعش بفطرته السوية فلن تجد لديه إشكالية في المزاوجة بين الجانبين المادي والمعنوي للوطن. في الزمن الذي نعيشه اختلطت الأوراق عند بعض الناس، وخاصة جيل الشباب الذي انفتح في فكره وقيمه على العالم، فأضحى فريسة للأفكار العابرة للقارات، والتي تتعارض في بعض الأحيان مع ثوابت القيم السائدة في الوطن. من الأمثلة القديمة المتعارف عليها في هذا الخلل النفسي، الطلبة الذين يكملون دراساتهم خارج أوطانهم، ويقضون فترات طويلة من الزمن بعيداً عن محاضنهم التربوية الوطنية، تجدهم يرجعون إلى الوطن مُحملين بالعلم والمعرفة والخبرة التي ينتفع بها المجتمع. لكن الواقع يقول لنا إن بعضهم يضيف إلى ما سبق كراهية لمجتمعه محبة لبلد دراسته، فتجده متعالياً على قيم وطنه رافضاً لها سراً أو جَهْراً، متعمداً طرح أفكار التشكيك في قيم المجتمع وثوابته، هذا الإنسان لديه وطنان أحدهما ما يحمل أوراقه الرسمية مثل جواز السفر، والأهم هو وطن فكره الذي رضع منه حتى تشربت به نفسه، فأضحى وطن الفكر أحب إليه من وطن النشأة هذه الظاهرة باتت معروفة في مجتمعنا العربي، وخاصة مع انتشار فرص الابتعاث إلى الخارج، أرجو ألا يفهم من ذلك أنني ضد فكرة الدراسة في الدول المتقدمة، لكنني سقت المثل لتقريب المشهد الفكري. دعوني أسوق لكم مثلاً نشهد فصوله اليوم في جل الدول العربية وهو شاهد على الازدواجية الوطنية، إنها الحرب المستعرة بين أقطاب الليبرالية ورموز ما يعرف بالصحوة الإسلامية، كلاهما فقد الهوية الوطنية، فالليبراليون يَرَوْن أن حريتهم مسلوبة في أرض أوطانهم كما يقولون، لذلك يسعون جاهدين لضخ فكر جديد في أرض وطنهم، كي ينعموا بما تشرّبوه من أفكار بعضها يتصارع مع ثوابت قيم المجتمع، بلا شك هم لا يعلنون ذلك صراحة، لكنهم كما يرددون مصلحون لخلل في أوطانهم.. تيارات الإسلام السياسي كذلك تعاني نفس الفصام، فهي تعلن جهاراً الولاء للحكام في بلادها، لكن حلمهم الحقيقي لا يتحقق إلا برؤية أفكارهم وقد سادت البلاد والعباد، هؤلاء كذلك لهم وطنان أحدهما ما يحملون جنسيته والثاني هو ما تربوا عليه في محاضنهم الفكرية من ولاء وطاعة لجماعتهم حتى ولو تعارضت تلك الطاعة مع ولاة أمورهم. الحزبان الليبرالي والإسلامي لهما وطن انتماء وآخر وطن حب وولاء رضعا محبته في محاضنهما الخاصة وربيا اتباعهما على هذه المحبة.. ونحن نتذكر في هذه الأيام تاريخ الهجرة النبوية، دعونا نقف وقفة جادة ننتمي فيها إلى أوطاننا فكراً وواقعاً انتماءً وولاءً.. الهجرة التي نحتاجها اليوم تتلخص في الابتعاد عن كل الأحزاب التي جعلتنا نعيش هذا الفصام النكد بين الولاء والانتماء. *أكاديمي إماراتي