وسط الانتكاسات الكبرى التي يشهدها عالمنا المعاصر، والتي قد لا نبالغ إذا سمّيناها انسدادات حضارية، هناك ظاهرة جديرة بالوقوف عندها، بل ربما التعويل عليها لمستقبل غير بعيد: إنّها تتمثل في تشكّل رأي عام عالمي لم يكن له في أي وقت سابق الحضور الذي يحظى به اليوم. يتجلى ذلك في الانتباه إلى صعود النساء إلى مواقع قيادية في السياسات الدولية، أو إلى أفعال وأقوال شخصية كالبابا فرانسيس. بيد أنه راهناً يتجلى أكثر ما يتجلى في الاهتمام العالمي غير المسبوق، والذي تجتمع فيه قارات الأرض بالتساوي، بالانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث إن شخصيتي دونالد ترامب وهيلاري كلينتون وأوضاعهما وأقوالهما وأفعالهما صارت من اليوميات الوطنية في كل واحد من البلدان. ولكن شراكة المتابعة تبرز أيضاً، واستطراداً، في القلق العالمي غير المسبوق من احتمال نجاح المرشح الجمهوري في نوفمبر المقبل وفوزه بالمنصب الأكثر تأثيراً في العالم كله. لا شك أن هذه الظاهرة تبقى إحدى النتائج الإيجابية العديدة للعولمة، ولحضور كل العالم حضوراً فورياً في كل العالم، مقابل الظاهرات السلبية التي نجمت عن العولمة، وفي عدادها صعود ترامب نفسه وصعود عدد من زملائه الشعبويين في بلدان أخرى. وغني عن القول إن المعبرين عن تلك الظاهرة وفاعليها لا يزالون في غالبيتهم الساحقة من سكان المدن الأكثر تعلماً واطلاعاً على شؤون العالم خارج بلدانهم. كما أن الولايات المتحدة الأميركية -وبسبب مركزيتها الاقتصادية والسياسية والتعليمية والاستراتيجية في آن معاً- لا تزال المختبر الأول والأبرز لاشتغال ظاهرة الرأي العام العابر للحدود الوطنية. وهذا بذاته لا يكفي بطبيعة الحال، إذ يبقى مطلوباً أن يتسع نطاق الفاعلين والمهتمين، ليشمل الفئات الأقل تعلماً والأقل تمدناً، وأن يتسع بالقدر نفسه نطاق الانشغالات الكونية ليطال المآسي الحاضرة والمُلحة، وعلى رأسها في الوقت الراهن المأساة السورية التي قضمت حياة مئات الآلاف وهجّرت نصف السكّان السوريين من بيوتهم ورُبعهم من بلدهم ذاته. ولا نأتي بجديد إذا قلنا إن الحساسية حيال المأساة المذكورة كانت ولا تزال أصغر كثيراً مما تستحقه، وهي تزداد صغراً حين نتذكر أن جزءاً أساسياً من الاهتمام بها إنما يتصل بآثارها الحصرية (عبر اللجوء والإرهاب) على بلدان الغرب نفسه. مع هذا لا يمكن إلا الاستبشار بنشأة هذه الظاهرة وتوسّعها إذ يُرسيان الأساس لتجاوز الانكفاء والضيق المحلّي على أنواعهما. وكم يغدو هذا الهدف ضرورياً وإنقاذياً حين يُنظر إليه من عين منطقتنا، حيث تنفجر ولاءات ما دون الدولة الواحدة، أكانت دينية أو طائفية أو إثنية أو جهوية، وتتفجر معها النزاعات والحروب المفتوحة. ووعي كهذا يتجاوز، في آخر المطاف، الاشتراك في متابعة الأحداث الأميركيّة والعالمية الكبرى، أو في القلق من فوز دونالد ترامب، بل إنه، فوق هذا، يتجاوز الشراكة في التعاطف الإنسانيّ مع ضحايا الطغيان والتعصّب والحروب، على أهميته، إلى تفكير المسائل المُلحة لعالمنا والتي يستحيل حلها من ضمن النطاق الحصري للدولة الوطنية. وفي هذا الإطار يمكن أن ندرج مسائل اللجوء والهجرات التي تعرضت لها شعوب كالشعبين السوري والفلسطيني، أو توزع شعب واحد، كالأكراد، على عدد من الدول القومية والأمم، ناهيك عن مسائل تتّصل بالإنماء أو بالعلاقات المجتمعيّة، كتنظيم الاستفادة من مياه الأنهار العابرة للدولة الواحدة (وهو حال معظم الأنهار)، أو برامج تنظيف البيئة ومحاربة التلوث، أو مكافحة الإرهاب والتهريب والتهرّب الضريبي وتبييض العملات.. إلخ. فهنا، لابد أن يضطلع الرأي العام العالمي، قيد التكون، بدور لا يستطيع أي فاعل آخر أن يمارسه بالنيابة عنه. ----------------- محلل سياسي- لندن