كان بعض ذوو التوجهات الليبرالية ينكر وجود التسلّط الديني في المجتمعات العربية، رغم أنه كان أوضح من الشمس، ويرى أن الأنظمة صنعت بيديها وحشاً بجلباب وعمامة وأطلقت عليه اسم الاستبداد الديني، لتخيف به الشعب، وتحذّر منه الغرب، وأن الاستبداد السياسي السبب الأول والأخير في تأخر الدول العربية. تداعيات «الربيع العربي»، والتي تزامنت مع الانتشار الهائل لمواقع التواصل الاجتماعي، أظهرت أن الوحش حقيقي، من لحم ودم، وله يد ولسان وأسنان، والأهم من هذا رأى الجميع أنه كائن مجنون لكن له سُلطة حقيقية على الناس، وأن في قدرته حشد البشر وتحريكهم مثل الأمواج. الآن اختلف خطاب هؤلاء وصاروا يضعون الاستبداد الديني جنباً إلى جنب الاستبداد السياسي، وإن كانوا يرون أن الثاني هو المشكلة رقم واحد، وأنه إذا رحل ستأتي الديمقراطية، والتي لا تفسح بطبيعتها المجال لرجال الدين ليتدخلوا في الشأن العام.. وهكذا تبدأ مرحلة السير في طريق التمدن والتقدم. وبطبيعة الحال الديموقراطية ليست كتيب إرشادات تصدره الأمم المتحدة وترسل نسخة منه إلى جميع شعوب الأرض لتعمل بموجبه، إذ الديموقراطية من غير ليبرالية تصبح مجرد غزوة صناديق، والمفاهيم الليبرالية لا يمكن فرضها بأي حال من الأحوال، ولابد أن يتبناها الأفراد كقيم حياة. كما أن الشعوب ذات الأنظمة الديموقراطية الحقيقية لم تسلك هذا الطريق الذي يرسمه هؤلاء، وليس بين أيدينا نماذج لانكفاء رجال الدين في دور العبادة بمجرد رحيل المستبد السياسي، بل لدينا العكس تماماً، كما في إيران، والسودان، والعراق، وأفغانستان زمن «طالبان»، ومصر في عهد «الإخوان»، وربما ليبيا وسوريا في الطريق. لكن لتكتمل الفكرة، فلنمضِ مع هؤلاء في ذلك الطريق لنرى أين يمكن أن نصل، ونفترض أن نخبة سياسية مستبدة في بلد عربي وإسلامي، قررت في لحظة صحوة حزم حقائبها وترك الأمر بيد الشعب.. فهل ثمة سيناريو غير امتلاء الساحات بأهل العمائم والجلابيب، ومن خلفهم رؤساء العشائر والقبائل، وأصحاب الأصوات العالية من الطائفيين والعنصريين، والذين يجيدون العزف على أوتار الغرائز وبعث الأحقاد وبث المخاوف، ليحلوا محل من رحلوا؟ التاريخ يؤكد ذلك، والمنطق يقضي بذلك، وأي سيناريو آخر هو من عالم الكرتون الذي يحدث فيه ما لا يقبله العقل. وما الحل إذن، خصوصاً أن الاستبداد السياسي لا يمكن أن يدوم للأبد، وأن نهايته الاصطدام بالجدار؟ ربما هناك خيار واحد يتمثل في قيام النخب المثقفة بدورها في التبصير، وفي التنوير، وفي نشر المفاهيم الليبرالية، وإعلاء القيم الإنسانية، حتى لو استغرق هذا عقوداً من الزمن، وهو سيستغرق شئنا أم أبينا، فتغيير ثقافة متماهية مع أشكال الاستبداد ليس مثل تغيير زيت السيارة. وإذا كان مثل هذا الخيار غير وارد في الدول التي تمارس فيها السُلطة أساليب القمع والإذلال وسحق الكرامة وكتم الأنفاس والتضييق على النخب ومنعها من أداء دورها، إذ من غير المعقول انتظار موسم الحصاد بينما الجرافات تزيل الأشجار، فإنه الخيار الوحيد في غير تلك الدول.