مخاطر العولمة على الهوية الثقافية هي مقدمة لمخاطر أعظم على الدولة الوطنية والاستقلال الوطني والإرادة الوطنية والثقافة الوطنية. تعني العولمة مزيداً من تبعية الأطراف للمركز، تجميعاً لقوى المركز وتفتيتاً لقوى الأطراف بما في ذلك الدولة الوطنية التي قامت بدور التحرر الوطني وتحديث المجتمع، والتي قاومت شتى أشكال الهيمنة القديمة والجديدة حتى انهيار المعسكر الاشتراكي، وتقذف عليها مفاهيم جديدة أشبه بالسوط على ظهر من لا يدخل بيت الطاعة في نظام العالم الجديد: حقوق الإنسان، حقوق الأقليات، حقوق المرأة. وقوى الدعم الغربي لمراكز حقوق الإنسان بالمفهوم الغربي الفردي دون مراعاة لحقوق المواطنة وحقوق الشعب. وانتشرت البحوث عن الأقليات العرقية والطائفية من أجل إبراز الخصوصيات والهويات والتعدديات الثقافية للقضاء على وحدة الثقافة، ووحدة الوطن، ووحدة التاريخ، ووحدة المصير. وانتشرت مشاريع دراسات المرأة وجمعياتها، وأدخل مفهوم النوع Gender في كل شيء في ثقافات لم تعرف بعد مفهوم المواطنة التي لا تفرق بين ذكر وأنثى. وغاب النضال الوطني بخلق عدو وهمي للمرأة هو الرجل بينما المرأة والرجل كلاهما ضحايا عدو مشترك هو التقاليد والتخلف والفقر والقهر والاستعباد. وكل ذلك بداية للهدف الأعظم وهو فتح الدولة الوطنية لحدودها الاقتصادية والسياسية، والسير في نهج الخصخصة، والتحول من القطاع العام الذي تبنته بعد تحررها الوطني إلى القطاع الخاص الذي يساهم فيه رأس المال الأجنبي ويزاحم رأس المال الوطني. وعلى الاقتصاد الوطني أن يتحول إلى جزء من الاقتصاد العالمي، برفع الدعم عن المواد الأولية، وترك كل شيء لقانون العرض والطلب، في الغذاء والإسكان والتعليم والخدمات العامة. واتفاقية «الجات» أي كل أسواق الدول مفتوحة للمنافسة العالمية من أجل تصريف الفائض الاقتصادي للدول الصناعية. وبالتالي تنتهي الصناعات الوطنية والحماية الجمركية، وتنشأ المناطق الحرة للتبادل التجاري الحر حتى تصبح الدول الوطنية بالأمس القريب كلها أسواقاً حرة مثل هونج كونج وتايوان، ومن لا يقدر على المنافسة في الأسواق عليه أن ينزوي إلى متاحف التاريخ. ولا مكان للأقزام بجانب الكبار. وتعم قيم الاستهلاك والمتعة بالحياة، ولا تنظر الأمم إلى مشاريع قومية وخطط استراتيجية بعيدة المدى، فذلك من اختصاص المركز، وما على الأطراف إلا ركوب القطار الذي يحدد المركز اتجاهه وسرعته ونوع حمولته وقائده ووقوده ومحطاته التي يتوقف فيها أو التي يتجاوزها. فإذا اتسعت المسافة بين الأغنياء والفقراء انتشرت الجرائم المنظمة، وظواهر «البلطجة» والحماية الشخصية، واسترداد الحقوق أو نهبها باليد، وتطبيق الشريعة بالعنف والكره والإجبار، وما دام العنف أصبح وسيلة لتحقيق المطالب، وينتشر الفساد ووسائل الكسب السريع وتهريب الأموال، ويزداد الغلاء والترف، وتضيع القيم العامة، وينتهي ما يربط الناس، ويزداد التفكك الأسري والتشرذم الاجتماعي. من كل فرد وكل طائفة تبحث لها عن قضية بعد أن غابت القضية العامة، وبعد أن انحسر الوطن في قلوب المواطنين. ويسود الشك والنسبية كما ساد في المركز. وتعم العدمية، وتنقلب القيم، ويسري الخواء في الروح، فتنهار الأمة، ويغير التاريخ مساره من الشعوب المتحررة حديثاً إلى الاستعمار الجديد ليستعيد مجده القديم تحت شعارات براقة مثل النظام العالمي الجديد، والعالم قرية واحدة، وثورة المعلومات. وتُنشر أساطير الثقافة العالمية، والوعي الكوني، والكوكبة، والعولمة. ويتوحد العالم كله تحت سيطرة المركز، وتصبح ثقافته هي نموذج الثقافات، ويتم تخطيط كل شيء بحيث يختفي الخاص لصالح العام الذي كان في بدايته خاصاً ثم أصبح عاماً بفعل القوة، مهما نبه علماء الاجتماع على أن المعرفة قوة (فوكو) أو المعرفة مصلحة (هابرماس). وباسم المثاقفة يتم انحسار الهويات الثقافية الخاصة في الثقافة المركزية مع أن اللفظ سلبي Acculturation ويعني القضاء على ثقافة لصالح أخرى، ابتلاع ثقافة الأطراف داخل ثقافة المركز، وتخفف بعض المصطلحات الأخرى من مستوى عدم الندية بين الثقافات فتبرز مفاهيم التفاعل الثقافي، التداخل الحضاري، حوار الحضارات، التبادل الثقافي، وهي مفاهيم تنتهي إلى أن ثقافة المركز هي الثقافة النمطية ممثلة في الثقافة العالمية والتي على كل ثقافة احتذاؤها، وتنتهي أسطورة التعددية التي طالما قامت عليها حضارة المركز، وعبّر عنها وليم جيمس في «عالم متعدد» لصالح عالم أحادي الطرف. ثقافة تبدع وثقافات تستهلك، ثقافة تصدر وثقافات تنقل. *أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة