في عام 1017م أصدر القادر بالله العباسي بيانه الذي عرف بـ «الاعتقاد القادري» الذي أكد فيه أن كلاً من المعتزلة والشيعة ليسوا مسلمين، ولكن الاصطخري المعتزلي الذي اعتبر الخليفة أمثاله كفرة، كان قد انتهى للتو من تأليف كتاب يرد فيه على الباطنية. وقد أعجب القادر بالله بالاصطخري، وامتدحه، وخصص له مصروفاً استمر بعد وفاته لورثته. والباطنية التي شغلت عالم الإسلام من أواخر القرن العاشر الميلادي إلى منتصف الثالث عشر، كان المقصود بها الفرق الإسلامية التي تفرعت عن الشيعة معتمدة تفسيراً باطنياً خاصاً للقرآن، بمن فيهم الإسماعيلية الفاطمية (العُبيدية) والقرامطة، والنزارية الحشاشون وغيرهم الذين سيصبحون الشغل الشاغل للخلافة ولكبار فقهاء الإسلام ومتكلميه، بمن فيهم أبو حامد الغزالي الذي سيضطلع بعد الاصطخري والباقلاني بمهمة ترويج كفر الباطنية وانحرافهم عن الإسلام، فقد ألف الغزالي ستة كتب عن الباطنية. وكان أحد الذين كتبوا عن الباطنية، محذرين منها مثقفاً كان يشغل منصب القَيم على مكتبة حلب، وكان شيعياً لا سنياً، ولكنه اختطف من قبل عيون الإسماعيلية إلى مصر وقتل وصلب بسبب ما كتبه. كان التهديد العُبيدي والقرمطي يستهدف أيضاً مملكة البويهيين الشيعة. كان العُبيديون يطرقون أبواب خليفة بغداد، وتمكنوا بفضل دعاتهم السريين أن يكسبوا ولاة وعمالاً تابعين للخليفة، بمن فيهم والي الموصل الذي بلغت به الجرأة أن يدعو للخليفة العبيدي في الخطبة. ولأن القادر العباسي الذي حكم أربعين عاماً كان منشغلاً منذ صغره بعلوم الشريعة، حظه من الفقهاء أكثر من الأمراء ورجال الدولة، فقد كان للوعاظ والزهاد والمطوِّعة الذين يخالطهم ممن لا دراية لهم في السياسة ولا في الحكم تأثير سيئ عليه انعكس في إدارته للحكم. فقد أقنعوه بأن جهاز «الاستخبارات الداخلي»، أي المخبرين الذين يأتون بالخبر المعروفين باسم «المطالعات» هم ليسوا إلا نمامين يوغرون الصدور ويفسدون الوئام بين ولي الأمر ورعيته! لهذا قام القادر بتدمير هذا الجهاز وأحال الموظفين إلى التقاعد، يعانون البطالة، وأخيراً رأى أن يحوِّلهم إلى مجاهدين على الثغور ليكون شرهم على الكفار وليس على أهل الإسلام. وبفضل هذا القرار الكارثي الذي اتخذه الخليفة، انكشفت البلاد أمام الأعداء من كل صوب، وتمكن الإسماعيليون الذين أحاطوا بأرض الخلافة كالسوار عبر استخباراتهم ومخبريهم ودعاتهم السريين من اختراق منطقة حكمه، وإضعاف دولته، وشراء أمرائه. في القرن الحادي عشر الميلادي، كان صراع آخر شرس وصدامات وبيانات تكفير متبادلة، اشتعلت بين الحنابلة/ أهل الحديث وبين الأشاعرة، تثور بين الفينة والأخرى على مدى قرنين، تثور ثم تهدأ. وفي أثناء هذا كانت الحملات الصليبية قد قضمت مساحات من أرض الإسلام، واحتلوا بيت المقدس وأجزاء من الشام، والعُبيديون أنفسهم كالعباسيين والمماليك واجهوا تلك الحملات، وفي الوقت نفسه حرص الحشاشون على عقد تحالف مع أمراء الصليبيين. وهكذا كان فقهاء السنة أشاعرة وحنابلة، وفي ذيلهم عوامهم يقتتلون فيما بينهم، يتصافعون في المساجد، ويتراشقون الحجارة، ويفسدون مجالس بعضهم بعضاً، ويكفرون بعضهم بعضاً، فاضطر نظام الملك السلجوقي الذي كان مشغولاً مع صاحبه الغزالي بطامة أكبر، إلى ترتيب مجلس صلح لاحتواء الفتنة بين هذين التيارين. وفي هذا الاجتماع، قال شيخ الحنابلة في وجه الأشعري: «نحن نراكم كفاراً، وأنتم تروننا كفاراً فعلام نصطلح!». هذا التاريخ لا يزال حاضراً بيننا، يفسد النفوس ويسمم الأرواح، وهو يُبتعث حياً، وسنتنفس روائحه الكريهة في المقبل من أعمارنا، وسيغرق في أوحاله أبناؤنا، ما لم نقم لله مثنى وفرادى ونتفكر في سوء مآلنا ونعود إلى رشدنا.