العنف دورة مجنونة لا تأتي إلا بالعنف. والعنف دورة تزداد اتساعاً والتهاباً. والعنف لا يحل مشكلة بل يخلق مشاكل. فهذه ثلاث حقائق أساسية في سيكولوجية البشر.. ومن يتغافل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. واليوم كثير من البشر مرضى بالعنف، ومن أشنع وأبشع مرضى العنف «داعش» و«فاحش»، وأهل التطرف والعنف عموماً هم من طينة واحدة، يرون أن القتل هو أول وآخر الحلول لكل شيء، مثل الطبيب الذي يعالج مريضه بالتخلص منه، وليس تخليصه من المرض! وفي كتاب «البؤساء» تبدأ القصة من سرقة رغيف خبز، من أجل إطعام أطفال جياع، لتنتهي في السجن لتسع عشرة سنة. هكذا كتب «فيكتور هوغو» روايته العالمية البؤساء عن «جان فالجان». ويقول إنه طالما كان في العالم بؤس وشقاء وجهل، فيجب أن تكتب مثل هذه الروايات لتسجيل تلك المآسي والمحن. ومن الأمور التي يراها خبراء في علم الجريمة أن السجن وحده، دون أن يقترن ببرامج تقويم وإصلاح، لا يخرّج إنساناً صالحاً، بل قد يبقى في كثير من الأحيان مجرماً عتياً. بسبب مسلسل التمرد والعقوبة التي كان يقودها، في تلك الرواية ذائعة الصيت، الشرطي «جافير» حرصاً على تنفيذ القانون. والقانون وضع للناس وليس العكس. وفي الإنجيل أن الكتبة قالوا للمسيح لمَ تعظ «العشارين» يوم السبت؟ فقال لهم: لو وقع خروف أحدكم في الماء يوم السبت ألا تنقذونه؟ ويلكم إن إنقاذ إنسان أهم من خروف، والسبت وضع للإنسان ولم يوضع الإنسان للسبت؟ والذي حرر «جان فالجان» من الأفكار الشريرة السوداء لم يكن السجن أو القانون، بل كان بالأساس قساً قابل سرقته بالصفح عنه! وأفضل ما يؤخذ من الإنسان يظهر ليس بالإكراه بل بالإيمان. والقس رأى المنظر يمكن التعامل معه خارج إطار القانون والعقوبة. ومن ينبوع الحب والمغفرة ولد إنسان آخر هو العمدة «مادلين» الذي أحيا مدينة كاملة! وعلى المنوال نفسه كتب ديستوفسكي روايته «الجريمة والعقاب» ليقول لنا إن «راسكولنكوف» هو مجرم في داخل صدر كثيرين منا. وإن المجتمع هو الذي قد يجعل أحياناً بعض البشر مرضى بالعنف والجريمة. وهذه الروايات تنفع في شرح الأبعاد السيكولوجية لآلية العنف وحدوثه. وعندما اقتيد سارق إلى عمر، رضي الله عنه، في عام المجاعة ليطبق عليه الحد فيقطع يد الفقير السارق أطلقه عمر وقال لسيده لو جئت به مرة أخرى قطعت يدك أنت. والنصوص لها ظروف تطبيق. وإذا انتفى الوسط تغير الحكم. والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً. وقد يكون بيننا وبين فقه من هذا النوع مسافة سنة ضوئية. بعد أن تحنط العقل في جوانب من ثقافتنا بأشد من مومياء الفرعون بيبي الأول! وكما يقول سقراط إن كان لي الخيار بين الظالمين والمظلومين فأحب إليَّ أن أكون من الفريق الثاني. وهذا أمر سيكولوجي ذو نتائج في تحفيز الوعي واللاوعي لنصرة المظلوم. وهو قانون نفسي عند جميع الناس فيحرك مشاعر التضامن لكل المظلومين الذين قضوا من أجل أفكارهم، فلمع اسمهم بأشد من الشعرى اليمانية في أفق الإنسانية مثل ابن رشد و«جوردانو برونو» و«جان هوس» و«السهروردي» و«جان دارك»..الخ، الذين فضلوا الموت من أجل أفكارهم ولم يمارسوا العنف. وقد يكون من المفيد أن نستوعب أن إسرائيل لم تكن لتوجد لولا المرض العربي. وهو أمر لا يعترف به العرب. وأنه لولا انهيار الجهاز المناعي العربي ما انفجر الالتهاب الصهيوني. ولولا وجود المستنقعات ما تكاثر البعوض وانتشرت الأمراض. ولكن أن تقطع أنف أحدهم بالمقص وبدون تخدير أسهل عند البعض من استيعاب هذه الحقيقة! وكل ما نكتب ليست له قيمة وقد يكون من يقاومه أكثر ممن يناصره. وهذا الأسلوب إنساني وأخلاقي واقتصادي ويمكن التخلص به من مآزق الداخل والاحتلال الخارجي. ولكن بعض الشعوب تتعلم عادة بالمعاناة ومرارة تجارب التاريخ أكثر من النظريات والكتابات.