في هذه الأيام المباركة يتوجه المسلمون من كل بقاع الأرض قاصدين بيت الله الحرام، امتثالاً لقول الله تعالى: «وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، واستجابة كريمة لنداء الله جل وعلى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ». وفي الحديث الشريف: «الحجاج والعمار ضيوف الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم». والحج هو هجرة إلى الله واندماج في حياة إيمانية ربانية روحية مطلقة يعود منها المسلم كيوم ولدته أمه، مصداقاً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه». وعظمة الحج أنه يجمع هذا العدد من المسلمين على صعيد واحد في صورة أمة إسلامية مصغرة وفي إطار وحدة إيمانية روحية، رغم اختلاف مجتمعاتهم وجنسياتهم وأعراقهم ولغاتهم وطبقاتهم.. يجتمعون على هدف واحد وفي صوت واحد ونداء واحد: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». وفي هذا قال الشاعر أحمد شوقي: لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُم ....... لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصاتِ أَرى الناسَ أَصنافاً وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ ...... إِلَيكَ اِنتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ ....... لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ والمتأمل في الحج، بأركانه وشعائره ومناسكه، سيجد فيه الكثير من الأسرار والحكم التي حاول العلماء التأمل لاستكناهها على مر العصور، فهو بالنسبة لمحمد إقبال أكثر من مجرد رحلة روحية تهيئ الفرد للآخرة، بل هو كذلك صحوة شاملة تحمل المجتمع كله على إعادة صوغ نفسه بإيجاد دور خلاق له في التاريخ. وهو، كما يقول روبرت بيانكي في كتابه «ضيوف الرحمن.. الحج والسياسة في العالم الإسلامي»، موسم للتأمل يسبر فيه الحجاج أعماق ذواتهم ومجتمعاتهم: «في الحج تنصهر الهموم العامة والخاصة، الدينية والدنيوية، في بوتقة واحدة، مما يدفع المجتمع إلى تجديد بناء نفسه وإعادة النظر في موقعه على مسار التاريخ الإنساني». وحتى تكون رحلة الحج مليئة بالخير ومحققةً لمعانيها الروحية العظيمة، على الحاج أن يمعن النظر في أسرار المكان والزمان وقدسيتهما، وأن يسبر ما فيهما من حكمة ربانية بالغة بحيث لا تتحول مناسك الحج إلى طقوس لا روح فيها، أو إلى فعل رتيب لا يحدث أي فرق داخل الإنسان المسلم ولا يجعل حياته أنقى وأطهر مما كانت عليه قبل الرحلة. إن الحج فرصة عظيمة للتجدد والبناء ومضاعفة الثواب.. وعلى الحاج أن يستشعر كل ذلك بروحانية عالية، فمكة هي منطلق الرسول ومهده الأول، ومهبط الوحي وموقع البيت الحرام الذي تعدل الصلاة فيه مائة ألف صلاة في غيره كما جاء في الحديث الشريف: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه». ومن عظمة هذه الرحلة الإيمانية أن جعلها الله من أفضل وأبر الأعمال الصالحة التي يتعلم منها الفرد المسلم جهاد النفس وتطهيرها لا تحويل حجه إلى رحلة للنزهة التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يحج أغنياء أمتي للنزهة وأواسطهم للتجارة وقراؤهم للرياء وفقراؤهم للمسألة».