إثيوبيا إمبراطورية لعدة قرون خلت مع تنوع العائلات الإقطاعية الحاكمة، وعادة تقوم أية إمبراطورية على تعدد القوميات أو الممالك في بنائها، وتنهار مع اقتلاع السلطة المركزية أحياناً لصالح قومية دون أخرى، لكن «الإمبراطورية الحبشية» لم تتعرض كثيراً لهذه الظاهرة، إذ توالت قومية بعد أخرى في (أكسوم –ألامهرا – أورومو – تيجري)، كما توالت الممالك والسلاطين بتحالفات ناجحة ملحوظة، كما تقوم الكنيسة بدورها التقليدي طبعاً. وليس صحيحاً أن «الأورومو» كانوا دائماً مضطهدين أو مظلومين، فقد أسس «الجالا» ركائز الإمبراطورية مع أكثر من سلطنة أكثر من مرة، لأنهم يملكون ميزة أساسية يغفل عنها البعض، وهي أنهم منتشرون جنوباً وغرباً ووسطاً عكس المفهوم عنهم كمركزيين في منطقة الوسط أو الجنوب وكفى، ذلك يجعلهم جزءاً من أي نظام اجتماعي، أو نظام للدولة وليس بالضرورة نظام الحكم، وهذا يجعل الأساس الاجتماعي ومشكلة الأرض هي الأساس اليوم مع صياغة مطلب الحكم الذاتي وليس الانفصال مثلاً. ومن هنا لم يكونوا يوماً مهيمنين وحدهم مثل أقليات أخرى سيطرت كـ«الأمهرا»، وكذلك فإنهم كثيراً ما تمردوا دون طائل... (ويرجع هنا لأهم المصادر التي تقرأ عن أصول إثيوبيا: ريتشارد. بانكهرست (1946.1952) وريتشارد جرينفيلد 1967). ويكاد «الأورومو» أن يكونوا بهذه الصفات هم حماة الإمبراطورية الإثيوبية رغم أنهم لا يشكلون سلطتها في معظم الأزمنة، بل جنودها المقاتلين لصالح الطبقة السائدة، وهذا هو وجه الغرابة، أن تتعدد مرات تمرداتهم دون «إسقاط النظام»! رغم صدور دستور إثيوبيا منذ نحو عشرين عاماً، محترماً حقوق القوميات والأقليات (رسمياً نحو 11 ولاية، وعموماً حوالى المائة قسم)، وامتد الحق بتعقيدات كافية طبعاً حتى حق طلب الانفصال)، إلا أنه لم يعط «حقاً خاصاً» فيه إلا لـ«الأورومو»، الذي نص على احترام «المصلحة الخاصة للأورومو في فضاء أديس أبابا العاصمة (أي الأراضي)، ولم يتحدد بعد عشرين عاماً الآن نوع «المصلحة» المشار إليها إلا عندما قرر الحكم انتهاك هذه «المصلحة» مؤخراً، بصدور الخطة العامة ‏Master Plan ?لأديس ?العاصمة، ?تزعم ?كتابات ?«الأورومو» ?أنها ?تتوسع ?لنحو ?عشرين ?مرة ?على ?حساب ?أراضي ?«الأورومو» ?في ?العاصمة ?التاريخية! من هنا تصدر مشاكل الإمبراطورية الإثيوبية الجديدة، بما تكاد تفقد معه توازنها التاريخي، فالأورومو يشعرون أن مساحاتهم آخذة في الانحسار بسبب سياسة الاستثمارات الأجنبية الوافدة على الطبقة الحاكمة وحدها، وأولها في أراض محيطة بالعاصمة هي حقهم، كما أن معيشتهم نفسها معرضة للتدهور بسبب تزايد حدة الفقر مع تزايد الجفاف في وقت تنفق فيه إثيوبيا المال على «سد النهضة» دون عائد لهم، وهم بعيدون عن منطقة السد أساساً بما لا يفيد إمكانياتهم في الزراعات المحتملة نتيجة إقامة «السد». من هنا يخلط البعض في بلادنا بأن الانتفاضات الإثيوبية قد تفيد في إرباك موقف إثيوبيا في التفاوض.. الخ. مثل هذه التحليلات الإقليمية ضرورية أيضاً للتفرقة بين تمردات «الأمهرا» المتعلقة أساساً بالسطة ومدى الاستحواذ عليها وبين انتفاضة «الأورومو» خاصة أن التحالفات بينهما لم تكن ناجحة دائماً، وقد ظهر ذلك في تشكيل نخبة من «الأورومو» لجماعات مسلحة (مثل جنبوت7 بقيادة د. برهانو نيجا)، لم تتجه للتحالف مع أحد منذ تشكيلها، 2008 ومثل ذلك يكاد يتم بشأن الصوماليين في إقليم «الأوجادين» الصومالي، ولم يؤثر ذلك بعد في بنية «الإمبراطورية».. وكما يظل الوضع الإقليمي سنداً غير مألوف، فإن الحالة الاقتصادية البائسة للأقاليم خارج العاصمة تظل عنصراً معاوناً بدوره على غير المتوقع، إذن فالقول في تقديرات «صندوق النقد الدولي» إن إثيوبيا ستصل لمعدل نمو 5و7% فلن يخص ذلك نصف سكان إثيوبيا الفقراء من «الأورومو». ومن هنا فإن الاضطرابات الأخيرة لم تعلن الرغبة في الاستقلال أو الانفصال (وهذه حقوق في الدستور)، وإنما في الحكم الذاتي لضمان حقوقهم الاقتصادية الاجتماعية من جهة، وضمان تنظيم حياتهم السياسية من جهة أخرى، بما قد «تهتز» له -ساعتها -لإمبراطورية بتركيبها الطبقي والنخبوي الحالي، ولكنها لا تسقط كما يتوقع بعض المحللين. والدول الغربية الكبرى تثق في نمو إثيوبيا القادم، وتُعدها للتحكم في القرن والشرق الأفريقي، ولا تستنكر سلوكها في الصومال مثلاً، بل لم تعترض على تسمية إثيوبيا لأهل الصومال وخاصة في «الأوجادين» الإثيوبية كإرهابيين. وحين زار أوباما إثيوبيا في يوليو 2015 بعد الانتخابات العامة التي شكلت فضيحة سياسية بسبب المائة في المائة للرئاسة والحزب، لم يتورع عن تقدير شعبية الرئيس الإثيوبي العالية، في الوقت الذي أسمى فيه هو وقادة آخرين بعض أحداث بوروندي نوعاً من «الإبادة الجماعية»! الأوربيون وفروا لإثيوبيا في السنوات الأخيرة نحو 9 مليارات دولار لمعونات الغذاء ومعالجة آثار الجفاف. وتقول الكتابات «الأورومية» إنهم لم يحصلوا على شيء منها حتى جاء الفيضان الأخير ليقضي علي الأخضر واليابس، وقد يدفع الأمور في اتجاهات جديدة. ويضع «الأورومو» بذلك المجتمعات الأفريقية والعربية أمام مسائل جديدة غير قضايا الديون والمساعدات... إلخ، إنها مسائل «البيئة»، و«التهجير»، ويقاتلون في احتجاجاتهم الأخيرة على وضع سياسات خاصة بعدم الإضرار ببيئتهم ومياههم ووديانهم وأغنامهم ضمن عمليات استغلال رأسمالي دولي بدعوى الحاجة للاستثمارات! كما أن مشكلة «التهجير» إلى مناطق – حتى زراعية – جديدة تقضي على الهوية والاندماج الاجتماعي و«المصالح الخاصة»، التي نصّ عليها الدستور، ولا يعالج كل ذلك في كثير من المطالب المعلنة إلا تحقيق الحكم الذاتي الذي يضمن جماعيتهم وهوياتهم خوفاً من الضياع خلال عمليات التهجير وما يحدث من التشتت (بينما يخصص الكثير لعضوية الحزب الحاكم أو أحزاب الأقلية الموالية للسلطة).. ولقد لفت نظري شعار غريب للمضربين والثائرين «الأوروميين» وهو «أوروميا ليست للبيع»، وكان هذا هو الشعار المرتبط بقضية «توابع الاستثمار الأجنبي». التعبير الطريف الآخر ذو الدلالة: أن «الديكتاتورية مثل الديموقراطية قضت على مشروع الفيدرالية الاجتماعي السياسي الذي قامت عليه الثورة والثوار في إثيوبيا» ما لم يطبق الدستور، ولا تجدي صيحات أكثر من 11 مليون إثيوبي في الخارج، يكاد 90% منهم يكونون في كندا، فهل يخدم ذلك إثيوبيا بما يرد من استثمارات أم يضرها بما يرد من ضغوط الاحتجاج؟ والمشكلة أن المحتجين في «الدياسبورا» الأميركية حيث ترغب الولايات المتحدة في الحفاظ علي الدور الإثيوبي في الإقليم حتى لو اضطرت أن تجعل من الاستثمارات الكبرى سنداً لـ«سلطة عسكرية» بحجة حماية التوازن في البلاد، وليس مساهمة الرأسمالية في إنجاز قدر من الديموقراطية، والعدل الاجتماعي.