ليس هناك شك أن تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي كان أسوأ انتكاسة واجهت المشروع الأوروبي منذ ولادته في خمسينيات القرن الماضي. كان الاتحاد الأوروبي ينمو من حيث النطاق والطموح. ولكن، وللمرة الأولى، يبين الخروج البريطاني «بريكست» أن مصير أوروبا الواضح- وهي أن تكون في اتحاد يزداد قرباً على الدوام- قد لا يكون هو مصيرها المقدر، في نهاية المطاف. فمجرد معرفة أن التكامل الأوروبي يمكن نقضه، يمثل تهديداً في حد ذاته، حيث يجعل ما هو غير متوقع ،احتمالاً وارداً. ولكن هذا ليس هو الخطر الوحيد، خصوصاً إذا أخذنا في اعتبارنا، أن شعبية الاتحاد آخذة في التضاؤل، ليس في المملكة المتحدة فقط، وإنما في غيرها من الدول الأوروبية. فرأس المال السياسي للاتحاد قد استُنزف، كما أن العمل من خلال آليات «بريكست» قد يعمق الانقسامات، ويشكل اختباراً عسيراً لقدرة الاتحاد على التكيف. بداية نهاية الحلم الأوروبي ومن الممكن أيضاً أن يؤدي الـ«بريكست» إلى تحفيز الدعم للاتحاد، وإن كان ذلك سيحتاج إلى إجماع ومرونة وحسابات بعيدة النظر، وهي أشياء لا يمكن النظر إلى أي منها، على أنه أمر مفروغ منه. وإذا لم يكن في مقدور الحكومات الارتفاع إلى مستوى هذا التحدي، فإن الـ«بريكست» قد يكون بداية نهاية الحلم الأوروبي. بشكل ما، يمكن القول إن السخط السائد اليوم في أوروبا ليس بالشيء الجديد، حيث كانت هناك، في معظم الأحيان، فجوة بين الخطط الطموحة للقادة الأوروبيين، وبين استعداد مواطني القارة لمواكبة تلك الخطط، ومواصلة المسيرة. فإنجازات الاتحاد الأوروبي الجديرة بالإعجاب، في تأمين السلام والرفاهية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، تطلبت قيادة شجاعة، ذات رؤية، في حين لم يكن الناخبون -إلا في النادر من الحالات- قادرين على مواكبة سرعة هؤلاء القادة. لسنوات، كانت الأمور تمضي -على الرغم من ذلك- بشكل جيد. نموذج يتداعى فالنموذج كان عبارة عن عملية بناء للمؤسسات من أعلى لأسفل، تلتها نتائج جيدة، ثم تلاها الدعم الشعبي. مضى كل شيء على نحو جيد إذن. فعملية إعادة بناء أوروبا سياسياً واقتصادياً، بعد الحرب العالمية الثانية كانت معجزة معاصرة بكل المقاييس، أما الآن فإن النموذج الأوروبي آخذ في التداعي. والبريطانيون ليسوا وحدهم من يقدم الدليل على ذلك. فهم كانوا على الدوام لا يشعرون بالارتياح لوجودهم في الاتحاد الأوروبي الذي انضموا إليه متأخرين، وشكلوا إزعاجاً له طيلة وجودهم فيه، وكان خروجهم منه صدمة -ربما لم يكن يجب أن يكون كذلك. مع ذلك، لوحظ في الآونة الأخيرة أن خيبة الأمل تجاه الاتحاد قد انتشرت على مستوى أوسع نطاقاً. فوفقاً لاستطلاع رأي حديث، تبين أن الاتحاد الأوروبي، قد بات أقل شعبية في فرنسا- في فرنسا!- مما هو عليه في بريطانيا. إذن أين مكمن الخطأ؟ تنبع العيوب البنيوية العميقة للاتحاد الأوروبي، من التقليد المعروف بـ«المبالغة في الأهداف المراد تحقيقها Overreach»، فخلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وبعد سقوط المنظومة الشيوعية، كان أمام الاتحاد الأوروبي، إما أن يختار توسيع نطاقه، من خلال ضم أعضاء جدد (وأكثر فقراً بكثير) من دول أوروبا الشرقية، وإما تعميق البنية القائمة بالتزامات إضافية تجاه الاندماج السياسي والاقتصادي بين أعضائه الموجودين، والأكثر تماثلاً. وأمام هذا المفترق اختلف مهندسو الاتحاد الرئيسيين، فألمانيا كانت تريد التوسيع، في حين كانت فرنسا تريد التعميق. ولكن اختيارهم المشؤوم كان هو أن يفعلوا الشيئين معاً: أي أن يضم الاتحاد أعضاء جدداً، ويتخذ في الوقت ذاته المزيد من الخطوات نحو الاتحاد الاقتصادي والسياسي الكامل، وبشكل خاص من خلال تطبيق نظام العملة الموحدة، وهو ما اعتُبر في حينه أكثر الابتكارات التي اتخذها الاتحاد جسارة، ولكن وكما بينت الأحداث لاحقاً، فإنه كان جسوراً أكثر مما ينبغي. فحتى في مرحلة التصميم، قال العديد من الاقتصاديين إن المرتكزات السياسية لليورو كانت أضعف مما يجب. وكان رأيهم أن الاتحاد النقدي، يتطلب التزاماً بشكل من أشكال الاتحاد المالي، وهو ما كان يتطلب شعوراً مشتركاً على نطاق واسع بوحدة القصد بين أعضاء الاتحاد، وهوية أوروبية أكثر تكاملاً على المستوى الواقعي. من دون هذا، كان المتوقع هو أن تحجم الدول الأعضاء عن العمل المالي المشترك، وهو ما فعلوه في الواقع. كان البديل، هو ترك الفرصة للحكومات لاستخدام سياساتها المالية الوطنية على نحو أكثر قوة، ولكن النظام الجديد، رفض هذا أيضاً: فبالإضافة إلى استبعاد الاتحاد المالي، وضع النظام حدوداً وطنية صارمة على الاقتراض العام. ومع إغلاق السياسة المالية، وانتقال السياسة النقدية إلى البنك المركزي الأوروبي، فإن سياسة الاقتصاد المكبر على مستوى ما دون مستوى الاتحاد الأوروبي، كانت -لذلك السبب تحديداً- قد منعت تقريباً. أصداء أزمة 2008 كنتيجة لذلك، أصاب الانهيار المالي العام 2008 أجزاء من الاتحاد الأوروبي على نحو بالغ القسوة: ففي العديد من دول الاتحاد، تبقى معدلات البطالة مرتفعة، خصوصاً في أوساط الشباب. كما أن موجات الهجرة داخل الاتحاد ذاته، أدت إلى مفاقمة حالة عدم الأمان الاقتصادي، خصوصاً في بريطانيا وفرنسا، وعززت من الشعور السائد بأن الحكومات الوطنية لم تعد تهتم بهموم الناخبين. أزمة أوروبا، في جوهرها، أزمة ثقة نابعة عن التفاوت بين الغايات (الالتزام باتحاد يزداد قرباً على الدوام)، والوسائل (الدعم الشعبي للمؤسسات في مختلف دول الاتحاد). والمسألة هنا هي ما إذا كان الـ«بريكست» يمكن أن يقلل من درجة التفاوت بين الاثنين أم لا.. أولا: من أجل تأمين تسوية ناجحة، مفيدة لبريطانيا -والاتحاد الأوروبي أيضاً- في مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد. وثانياً: من أجل كبح الزخم الانفصالي الذي ينمو تدريجياً في باقي الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد. والتصويت على الخروج يبين أن تحقيق أيٍّ من الاثنين، لن يكون سهلاً بحال. ففي الشهور التي سبقت الاستفتاء، سعى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، إلى الحصول على شروط جديدة لعضوية بريطانيا في الاتحاد. وتركزت المحادثات الخاصة بذلك على ما يعرف بـ«الحرية الرابعة» وهي حركة انتقال العمال داخل الاتحاد (إضافة إلى الحريات الثلاث الأخرى وهي حرية التجارة في البضائع، والخدمات، ورأس المال). كان كاميرون يريد من الاتحاد الأوروبي أن يعيد تكييف تعهده بشأن حرية الحركة. رفضت حكومات أوروبا الأخرى هذا الاقتراح، لأن الحريات الأربع المنصوص عليها في معاهدات الاتحاد الأوروبي في رأيها كانت «غير قابلة للقسمة». حرية حركة العمال وفي الداخل البريطاني، نُظر إلى مسألة إعادة المفاوضات التي سعى إليها كاميرون على أنها فاشلة. وفي نهاية المطاف كسبت حملة المغادرة التصويت، وهو ما أدى إلى دخول بريطانيا والاتحاد الأوروبي بأسره، في مرحلة من الفوضى والاضطراب. وضمن هذا الإطار، فإن حرية حركة العمال ستكون مصدراً رئيسياً من مصادر الخلاف، في المفاوضات التي ستجرى بين بريطانيا والاتحاد، بشأن تنفيذ عملية الخروج. ويذكر في هذا السياق أن تريزا ماي، خليفة كاميرون في رئاسة الوزارة، قد قالت إنها ستسعى إلى أقصى قدر ممكن من التكامل مع الاتحاد الأوروبي، وإن كانت ستصر مع ذلك، على استرداد سيطرتها على الهجرة. سيكون هذا أمراً شاقاً بالتأكيد. فالعضوية في المنطقة الاقتصادية الأوروبية، ستمنح قدرة وصول كاملة إلى سوق الاتحاد الأوروبي الموحد، بما في ذلك حق شركة الخدمات المالية المسجلة في دولة عضو في «المنطقة الاقتصادية الأوروبية»، في العمل بحرية في أسواق دولة أخرى عضو في هذه المنطقة، وهو ما يطلق عليها مزايا الـPassporting، ولكن هذا النموذج أيضاً يتطلب حرية حركة العمال بين دول الاتحاد. المرونة المطلوبة وأيّ بديل مقنع سيتطلب إجماعاً بين دول الاتحاد السبع والعشرين على السماح بدرجة من المرونة، بشأن الموضوع الجوهري الخاص بالمبادئ. وهو شيء رفضت دول أوروبا عمله حتى الآن. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاقية، فإن سيناريو الحالة الأسوأ للخروج البريطاني، سيفرض القواعد المعيارية لمنظمة التجارة العالمية على صادرات وواردات المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وإليه، من دون وضع أحكام خاصة للخدمات. ويمكن لبريطانيا أن تسعى لعقد اتفاقيات تجارة حرة مع الدول الأخرى، ولكن ثمن استعادة السيطرة على الهجرة، سيكون باهظاً. وفي حين أن «بريكست» كان مفهوماً، إلا أنه حجب الحاجة الملحة إلى الإصلاح بين دول الاتحاد السبع والعشرين، خصوصاً التسع عشرة دولة الأعضاء في منطقة «اليورو». فالناخبون في العديد من البلدان مثل النمسا، وفرنسا، وألمانيا، وهولندا، وغيرها، يشعرون على نحو متزايد بالتضرر من الهجرة. يضاف إلى ذلك أن العديد من اقتصادات منطقة «اليورو» باتت غير تنافسية ومنكوبة ببنوك هشة، ودين عام مرتفع، ونمو بطيء، وبطالة مرتفعة. في الوقت نفسه تواصل العيوب الهيكلية في تصميم العملة الموحدة تأثيرها الضار. المشروع الأوروبي.. خطر السقوط الشيء الباعث على الحزن، هو أن عقارب الساعة لا يمكن إعادتها إلى الوراء. فعملية إعادة تصميم النموذج الأوروبي، تنطوي على خطر سقوط المشروع الأوروبي برمته، وتبدو غير واردة من الأساس. ما هو أسوأ من ذلك، أن إجراء إعادة نمذجة جزئية لن يكون أقل صعوبة من إعادة النمذجة الكلية. ليس هذا فحسب، بل إننا نجد أنه حتى الإصلاحات التدريجية بغرض توفير المرونة في التعامل مع السياسات التي ينوي الاتحاد تطبيقها، عندما تتطلب العملية السياسية الوطنية ذلك (كما هو الأمر بالنسبة إلى موضوع حرية حركة العمال)، أو إنشاء مؤسسات جديدة، إذا تطلبت الاعتبارات الاقتصادية ذلك (الاتحاد المالي)، ستتطلب إجراء تغييرات على المعاهدة على الأرجح، لذلك من المتوقع أن يدفع مزاج السخط السائد القادةَ الأوروبيين إلى التملص من مهمة تغيير المعاهدات، لأنها خطوة ستؤدي لتعريض الاتحاد الأوروبي إلى مزيد من التدقيق والرقابة الشعبية. إنها معضلة أوروبية صرفة: فكلما أصبح الاتحاد أقل شعبية، وبنفس المعيار، أقوى بدرجة تسمح بالتغيير، زاد امتناع الحكومات عن القيام بمحاولات جادة للإصلاح. فالمبالغة في الأهداف المراد تحقيقها، يقابلها على الجهة الأخرى، الشلل المؤسساتي. في المدى القصير، يمكن -على الأرجح- إيقاف التدهور بشأن موضوع «بريكست». ومن المؤكد أن التجربة البريطانية ستكون شاقة، وأن ذلك سيثبط من همم الساعين لتقليدها حرفياً في الاتحاد. وحتى في هذه الحالة، فإن الأمر المؤكد هو أن مستقبل أوروبا سيبدو مثقلاً بالسخط وخيبة الأمل الاقتصادية المزمنة، ويكاد يخلو تقريباً من الآمال القابلة للتحقق. كليف كروك *محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»