خلال العام الماضي، سعدت بزيارات من أيمن عودة وأحمد طيبي وأخيراً من باسل غطاس، أثناء مرورهم بواشنطن. وجميعهم مواطنون فلسطينيون يحملون الجنسية الإسرائيلية، وهم أيضاً أعضاء في الكنسيت، وجزء من «القائمة العربية المشتركة»، التي فازت بـ13 مقعداً في الانتخابات الأخيرة. وكان من دواعي سروري أن أجلس معهم وأطلع منهم ليس فقط على الصعوبات التي يواجهونها، ولكن أيضاً على التقدم الذي أحرزوه. وقد كتبت في السابق عن كيفية ارتباطي بالمجتمع العربي في إسرائيل، إذ كان الروائي الفلسطيني نافذ البصيرة غسان كنفاني هو السبب في تحويل أطروحتي لرسالة الدكتوراه لتصبح عن المجتمع العربي من الفلسطينيين الذين ظلوا في منازلهم بعد قيام إسرائيل عام 1948، بدلاً من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وأعطاني كنفاني سببين لتغيير موضوع أطروحتي. الأول: أنه على رغم كثرة ما كتب عن اللاجئين، كان هناك غياب للتأريخ حول «فلسطينييي الداخل». واعتبر أن السبب الثاني هو أنهم «أكثر العناصر الواعدة في الشعب الفلسطيني، لأنهم مثل شوكة في حلق إسرائيل». وفي مواجهة صعوبات جمّة، طوروا هوية تقدمية متفردة. واعتقد «كنفاني» أنه سيأتي اليوم الذي سيصبحون فيه في وضع يتمكنون فيه من تقديم قيادة مبنية على رؤية حقيقية للشعب الفلسطيني بأسره. وقد أعطتني لقاءاتي مع عودة وطيبي وغطاس شعوراً بأن غسان كان محقاً. فهؤلاء الأفراد المرموقين جزء من حركة أكبر واجهت الحكومة القمعية القومية المتطرفة في إسرائيل وهم يدافعون عن حقوقهم ويحافظون على دورهم السياسي. وخلال العقود الثلاثة الأولى، لم يتمكن العرب في إسرائيل من تشكيل أحزاب سياسية أو الانضمام إلى الاتحادات (التي كانت تقتصر على الصهاينة أو اليهود). وعاشوا تحت نظام قانوني تمييزي ووحشي. وخسروا أراضيهم في عمليات مصادرة واسعة النطاق. وأجبرهم نظام التعليم الإسرائيلي على دراسة العبرية والتاريخ اليهودي بدلاً من لغتهم وتاريخهم. وأولئك الذين قاوموا تعرضوا للسجن أو الاستبعاد القسري. ومثل حركات الحقوق المدنية الأخرى، استخدم هؤلاء المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل كافة السبل المتاحة لنيل حقوقهم، ومواجهة الاعتقالات وعمليات الطرد والعنف المميت. وعلى رغم وجود مشكلات هائلة متبقية، إلا أن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل يشكلون الآن أحزاباً سياسية وينضمون إلى الاتحادات ويتعلمون لغتهم وتاريخهم. وبالطبع، لا يزالون يواجهون العنصرية المنهجية في الإسكان والعمل والتعليم ومخصصات الموازنة وكثير من المجالات الأخرى، غير أنهم دشّنوا ورسّخوا قوتهم التي تواصل الضغط من أجل تحقيق مطالبهم بالعدالة والمساواة. وعند تشكيل قائمتهم المشتركة، أرسى المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل وحدة قومية جديرة بالاهتمام، جمعت مختلف الطبقات السياسية من قوميين ومحافظين وتقدميين.. مسلمين ومسيحيين على السواء. وهو ما دفع الائتلاف اليميني المتطرف بقيادة نتنياهو إلى تصعيد هجومه على المجتمع العربي من أجل تقسيمهم وكسر إرادتهم. وأسس الإسرائيليون هوية جديدة زائفة للمسيحيين في محاولة لتقسيم العرب على أساس الدين، واتهموا بعض أعضاء الكنسيت العرب بـ«التحريض» بسبب دفاعهم عن إخوانهم الفلسطينيين الذين يعيشون تحت حصار اقتصادي خانق مفروض على قطاع غزة. ومررت الحكومة الإسرائيلية قوانين تحظر على العرب واليهود التقدميين تأييد حركة المقاطعة السلمية التي تحتج على سياسة الاستيطان وتجعل من الصعب على إسرائيل الحصول على هبات من الاتحاد الأوروبي لترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان. غير أن جل هذه التدابير القمعية لم تفت في عضدهم أو عزيمتهم. ولا ننكر أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قد فعلت كل ما بوسعها لإضعاف ومعاقبة ونزع الثقة وتقسيم القيادة الفلسطينية في ظل الاحتلال، إلا أنها لم تكن أقل قسوة في تعاملها لقمع المواطنين العرب في إسرائيل. وقد أنهيت لتوي قراءة مقال مؤثر في صحيفة «هآرتس»، يرى كاتبه «جيدون ليفي» أنه بالنظر إلى رفض إسرائيل الانفصال عن الأراضي المحتلة، بينما تواصل بناء المستعمرات في قلب الضفة الغربية، والمناطق العربية التي تصفها بـ«القدس الكبرى»، فإن «عصر حل الدولتين قد أوشك على الانتهاء»، وقد حل محله واقع «دولة ثنائية القومية»، تكون فيها أعداد اليهود والعرب متساوية. وفي ظل هذا الواقع الجديد، لن يكون العرب أقلية، وإنما نصف السكان. وإذا ظل الأمر هكذا، ولا أرى دليلاً على أن حكومة نتنياهو ستغير اتجاهها، أو أن تجبرها أية قوة خارجية على فعل ذلك، فإن النضال الفلسطيني سيتحول حتماً من المطالبة بالاستقلال إلى حركة مطالبة بحقوق متساوية. وسيكون ذلك مجرد امتداد للمعركة التي يخوضها فلسطينيو «الداخل» منذ سبعة عقود! --------------- رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن