كثيرة هي المعارك التي أحدثت نتائجها تحولات متفاوتة في مسار الحرب في سوريا. غير أن معركة حلب الراهنة تكتسب أهمية خاصة لأن نتائجها ستتجاوز سيطرة المنتصر فيها على ثاني أكبر مدينة. والأرجح أنها ستكون معركة طويلة بعد أن تمكنت المعارضة المسلحة في الأسبوع الماضي من فك الحصار الذي كانت القوات النظامية فرضته على أحياء حلب الشرقية منذ 17 يوليو المنصرم، فانقلب الوضع وصارت هذه المعارضة قادرة على محاصرة الأحياء الغربية. ويُعد هذا تحولاً مهماً في حلب المقسمة منذ 2012 إلى أحياء غربية احتفظت القوات النظامية بالسيطرة عليها، ويسكنها أكثر قليلاً من مليون شخص، وأحياء شرقية استولت عليها المعارضة المسلحة ويعيش فيها نحو ربع مليون نسمة. غير أن أهمية معركة حلب لا ترقى إلى المستوى الذي يجيز اعتبارها حاسمة، سواء تمكنت المعارضة المسلحة من مواصلة التقدم، أم استعادت القوات النظامية زمام المبادرة ونجحت في استرجاع المناطق التي خسرتها. فليس الصراع على حلب إلا معركة في حرب شديدة التعقيد. لكن الاختراق الذي حققته المعارضة المسلحة فيها يرجح أن الحرب السورية ستكون أطول مما كان مأمولاً، وقد يضعف جهود التوصل إلى حل سلمي ما لم يحدث اختراق كبير في العلاقات الروسية التركية. وربما يكون هذا أهم ما يمكن استخلاصه حتى الآن من معركة حلب. فلن يقبل النظام السوري الانكفاء على النحو الذي اضطر إليه منذ منتصف 2013 وحتى صيف 2015، ولن يقبل حلفاؤه التراجع والاكتفاء بالدفاع عن المناطق التي يسهل الذود عنها. ولا ننسى أن روسيا، التي تتجه بخطى حثيثة لاستعادة مكانتها في النظام العالمي، دخلت اختباراً صعباً منذ أن قررت التدخل العسكري في سوريا. وها قد مر ما يقرب من عام على هذا التدخل دون أن يؤدي إلى اختراق استراتيجي حاسم في مسار الحرب. ويبدو أكثر ما يزعج الرئيس بوتين الخروج من هذه الحرب بدون تحقيق انتصار ملموس يؤكد حضور موسكو القوي، واستعادتها الدور الدولي الذي فقدته منذ تفكك الاتحاد السوفييتي. ولن يكفيه لهذا السبب أنه نجح في طي صفحة إسقاط الأسد، وتمكن من جعله رقماً صعباً في أي تصور لمستقبل سوريا. ولذلك فالمنطقي أن يكون خيار موسكو الأول هو السعي إلى تغيير مسار معركة حلب مجدداً، وتوجيه ضربة قوية ضد المعارضة المسلحة. أما خيارها الثاني فهو محاولة استثمار التغير الذي يحدث في السياسة التركية لتسريع جهود التسوية السلمية، مع الإصرار على بقاء الأسد خلال مرحلة انتقالية على الأقل، رغم أن استمراره ضمن أي صيغة للتسوية لم يكن خطاً أحمر لروسيا، بخلاف الحال بالنسبة إلى إيران. ويتوقف هذا الخيار الثاني على حجم التغير في السياسة التركية تجاه سوريا. ورغم أن ما دار في محادثات بوتين وأردوغان الأسبوع الماضي لم يُعرف بعد، يظل لدولتيهما تأثير قوي في الوضع في سوريا حرباً أو سلماً. فإذا حدث تفاهم بينهما على صيغة للتسوية، سيكون مؤثراً بدرجة كبيرة حتى إذا لم تكن حاسمة، لأن كلاً من الطرفين المتقاتلين سيخسر أحد أهم حلفائه إذا رفض هذه الصيغة. أما إذا تعذر مثل هذا التفاهم، أو تطلب إنضاجه وقتاً قد يطول، ستقود معركة حلب إلى إطالة أمد الحرب على نحو قد يتجاوز أكثر التوقعات تشاؤماً. وهذا هو الأرجح اليوم. لقد أصبحت المعارضة أكثر قدرة على مواصلة الحرب لفترة طويلة، حتى إذا خسرت مواقع سيطرت عليها أخيراً لسببين، أولهما أن الاختراق الذي حققته أعطاها دفعة معنوية في وقت كان الإحباط قد بدأ يتسلل إلى بعض صفوفها. وينطبق ذلك على مناطق عدة، وليس على حلب وحدها. وقد ظهرت مؤشرات أولية على ذلك خلال الأيام الماضية في الهجمات التي شنتها في بعض المناطق التي اكتفت لأكثر من عام بالدفاع عما بقي لها من وجود فيها. أما السبب الثاني فهو أن السيطرة على الكليات العسكرية في حلب وفرت لها أسلحة وذخائر تكفيها لخوض معارك طويلة. وربما يشبه هذا التطور ما حدث عندما سيطرت المعارضة على مستودعات خان طومان في ريف حلب قبل أكثر من عامين، إذ استولت على أسلحة ساهمت في تمكينها من مواصلة القتال حتى الآن. وهكذا تبدو معركة حلب الضارية مفتوحة على احتمالين أرجحهما إطالة أمد الحرب السورية الممتدة.