يعد قرار دولة الإمارات ترسيخ مفهوم التربية الأخلاقية لدى النشء، خطوة غير مسبوقة في عالمنا اليوم، ولعل الحديث هنا عن هذا الموضوع والحرص على البحث والتطرق إليه، لم يكن من باب الإعجاب والإطراء فحسب، وإنما أيضاً زيادة في التأكيد والتأييد لضرورة دعمه وفهمه، والوقوف على أسبابه ودوافعه، وعلى الخطوة المباركة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، لأن هذه المبادرة الكريمة والفكرة الناضجة والطرح الواعي، ستؤتي ثمارها عما قريب من خلال الغرس الطيب، وتكريس مفاهيم الاحترام والحب والعطاء والأمانة والوفاء، وغيرها من المفاهيم التي تسمو بالشعوب وترتقي بالأمم. والأخلاق الكريمة تجعل الإنسان جديراً بإنسانيته، عضواً إيجابياً في مجتمعه، مسلماً حقاً، قولاً وعملاً، والدين المعاملة، وأول ما يوضع في الميزان حسن الخلق، وجوهر الدين هو الحث على كل خلق كريم، وقد جاء بذلك منهاج ديننا الحنيف الذي وظف الأخلاق الكريمة في مناحي الحياة كافة، وقد وصف الله في محكم التنزيل خيرَ البرية والأنام رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، فقال جل من قائل: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وكذلك حديثه الشريف حينما قال (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). ومكارم الأخلاق هي أقدم مدونة سلوكية عرفها البشر، ومن خلالها مهدت حضارات وامتدت منارات، كما أن الله عز وجل جعل ذلك سلوكاً حياتياً مطرداً على مشيئة ربانية وفي رسالة سماوية وسنن كونية حتى تستمر الحياه بالفطرة الطبيعية، فروح الأم في أنثى كل من الإنسان والحيوان والطير هي سلوك أخلاقي حقيقي راقٍ في وجدانيته وإنسانيته، بمعنى أنه عطاء دافق بلا مقابل، ولولا ذلك لم تستمر الحياة. والتربية الأخلاقية تهذب الفرد وتغرس في النشء القيم الأخلاقية الراقية التي يريد المجتمع زرعها في أبنائه، كما أنها إحدى أهم وظائف المدرسة التي تسعى لتحقيقها من خلال مواد الدراسة والأنشطة والتعلم، بقدر ما هي غاية التنشئة الاجتماعية التي يلقاها الإنسان في كنف أسرته ومجتمعه. بمعنى أن الطفل حينما يولد ويعيش في كنف والديه ويحظى برعايتهما الأولية، ومن ثم تبدأ حياته المدرسية ويتم تحقيق اتصال وتكامل وتفاعل بين تربية الوالدين الكريمة والأخلاق الفاضلة التي يكتسبها في المدرسة، فسيتمثّل كل تلك المهارات ومكارم الأخلاق في سلوكه مع غيره من أبناء مجتمعه، ومن ثم فستحل الأخلاق في جميع معاملات المجتمع، دون شك، وتكون سلوكاً طبيعياً وممارسة واقعية بفضل التكوين الأولي لأفراد المجتمع، واكتسابهم أصول الخلق والذوق الرفيع من الأسرة والمدرسة بصفتهما مؤسستي تنشئة اجتماعية. وإضافة إلى أن التربية الأخلاقية هي المقياس الصادق الذي تقاس به خطواتُ تقدم الشعوب، ونهضة الأمم، بل هي الأساس المتين الذي تبنى عليه عظمة الدول وارتقاؤها، فما ارتقت أمة في العالم القديم أو الحديث إلا وكان سببُ ذلك سمو أخلاقِ أفرادها، وقناعتُهم، واقتصادُهم، وحبُّهم الناسَ محبتَهم أنفسَهم، وإخلاصُهم في العمل لوطنهم، وانتشار روح النشاط والإقدام فيما بينهم، وبعدُهم عن مذموم الفخر والرياء، والدسائس والفتن، ونفورهم من الانقسام والمخاصمة، ولغو الفتن المتلاطمة. مارتن لوثر كينج يقول: «ليست سعادة الدول بوفرة إيرادها، ولا بقوة حصونها، ولا بجمال مبانيها، وإنما سعادتها بكثرة المهذبين من أبنائها، وعلى مقدار الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها". وما انحطت أمة، ولا أفل نجم مجدها، ولا زال سلطانها إلا بزوال تلك الأخلاق الفاضلة من نفوس أبنائها، وانغماسهم في الشر والفساد. وبالأخلاق الكريمة تسمو الأمم وترتقي، وقد ربط كثير من العلماء والمؤرخين بقاء الأمم وذهابها بالأخلاق، فكلما تعامل أفراد المجتمع مع بعضهم بعضاً بخلق حسن، نمت الحياة وازدهرت وأنبتت الخير بكل أشكاله، حتى إن كثيراً من الشعراء تغنوا بها، ولعل بيت أمير الشعراء أحمد شوقي: «وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا» خير دليل على ذلك. وقد نادى أيضاً فلاسفة العصور القديمة كأفلاطون والفارابي بقيم المدينة الفاضلة، ودعوا إلى سمو الأخلاق، والسعي لرفعة المجتمعات من خلال تأصيلها ونشرها بين الناس بعد وعيهم وإدراكهم لقيمها وقيمتها، وبانطماس هوية الإنسان من دونها. وفي الوقت الحالي، وعصرنا الحديث، وفي ظل المتغيرات الكثيرة المؤثرة في الحياة وسلوك الناس، فإن التربية الأخلاقية صارت ضرورة ملحة، ومن ثمّ فإن علينا جميعاً تنميتها في نفوسنا ونفوس أبنائنا، والعمل بها والتقيد بمكارمها حتى نرتقي بوطننا ونحقق المزيد من العطاء للإنسانية جمعاء. ولعل التحدي هنا أن لا يقتصر دور الأخلاق في المنهاج الدراسي وحدود أسوار المدارس فحسب، وإنما أن يمتد إلى مناحي حياتنا كافة، وبيوتنا وشوارعنا، وأدائنا في وظائفنا، وأمانتنا في تجارتنا ومعاملاتنا مع الناس، وكل ما يتعلق بحياتنا حتى تكون نبراساً مضيئاً ومثلاً أعلى للإنسانية جمعاء.