اشتهرت الهند بالاحتجاج السلمي، يوم خرج غاندي (اغتيل 1949) في مسيرة «الملح» (1930)، احتجاجاً على ضريبة فُرضت على تلك المادة. لكن من الغرابة أن تمارسه قرية تقع على سفح «جبل مكرون» وسط إقليم كردستان العراق، وبالأسلوب نفسه، حتى صار اللاعنف تقليداً من تقاليدها. أسس الشيخ عبدالكريم شدلة (ت 1942) حركة «حه قه» التي انشطرت من الطريقة النقشبندية، وصاحبها خالد النَّقشبندي (ت 1826)، وجاء العنوان (حه قه) من ترديد عبارة «يا حق» (العسكري، التفاتة إلى حركة حه قه)، وهمْ غيْر «أهل الحق» الكاكائية. أوقف الشيخ شدلة التقليد الصوفي النقشبندي (عام 1920)، لينهج به أسلوباً جديداً، فأنشأ نظاماً اجتماعياً بقريته شدلة، ملخصه: الغني يتنازل للفقير، وللمرأة دور في حياة الجماعة، فقلل مِن شأن المهر الذي كانت تباع وتُشترى به النساء، وحرم خطفهن، وكانت عادة قبلية جارية أن تُدفع ديات المخطوفات ويُحل الأمر بلا عقوبة على الخاطفين. ولما حُرم زواج الفتاة بالإكراه، صار لا حاجة للهروب ولا الخطف، وهذا ما جلب على الشيخ وحركته «حه قه» نقمة المتزمتين، الذين أخذوا ينعتونه بما ليس فيه، حتى حكموا على أخيه بالردة، وقد تورط المستشار البريطاني لوزارة الداخلية العراقية (1935-1945) أدموندز بالإساءة إليهم، في مؤلفه (Kurds، Turks، and arabs)، كتب ما سمعه من خصومهم، ويفسر مثقفو المنطقة تلك الإساءة لرفض شيخهم التعاون مع المستشار في شأن سياسي. لا نتوسع في شرح أحوال حركة «حه قه»، التي زرتها وسمعتُ تاريخها وتقاليدها مِن أفواه أهلها (أبريل 2013)، أثناء العمل في تأليف «الأديان والمذاهب بالعراق.. ماضيها وحاضرها»، إنما الغاية الوقوف على تلك الممارسة المدنية، وسط الجبال والوديان، والتي صارت تقليد الأمم المتحضرة. في عام (1934) اعتقل الشيخ عبد الكريم شدلة، فرمى مريدوه ملابسهم، وارتدوا أكياس الجنفاص (جواني) الخشنة، وبيدهم العصي القصيرة، وتوجهوا إلى كركوك، ووقفوا أمام مديرية الشرطة يضربون بها الأرض، مُخيرينها: «إما إطلاق سراح الشيخ وعودته إلى قريته أو اعتقالهم جميعاً». فلُبي الطلب وعاد الشيخ معهم. ثم تكرر هذا الموقف أكثر من مرة، لا يحملون غير العصي القصيرة. كذلك مارست هذه الحركة الاحتجاج السلمي، بالطريقة نفسها، عندما اعتقل أخوه وخليفته الشَّيخ «ما ما رضا شدلة» (ت 1961)، وكان أحد الموقعين على البيان التأسيسي لحركة أنصار السلم العالمي من العراقيين، ونُقل إلى لواء العِمارة (1944)، فقرروا المسير لأكثر من 500 كيلومتراً، إلا أن الحكومة أوقفتهم بكركوك وأُطلق سراحه. لا نعلم، هل انتقل احتجاج الهنود السلمي إلى العراقيين بشدلة، كي يصبح تقليداً لدى هذه الجماعة، هنا نلمح معلومة لدى قائمقام سورداش (1959)، والذي تتبعه «شدلة»، أن ضريحاً لشيخ أتى المنطقة من الهند يُعرف بأحمد الهندي، واستقر بسورداش، وله ضريح يُزار (محمود، مذكراتي في الإدارة)، فلعلَّ الشيخ نقل ما عرفه عن غاندي، فالفرق بين مسيرة الملح واحتجاج «حه قه» أربعة أعوام، وإذا كان هذا صحيحاً فيبدو أن التسامح كان سائداً، في أن يُشيع شيخ مسلم فعل رجل هندوسي. أو كانت الممارسة مِن لدن تلك المنطقة. فقبل ذلك حرّم شيوخ الحركة حمل السلاح. نلتقط في تاريخ البصرة العباسي (نحو 298هـ)، شيئاً مِن تراث الاحتجاج السلمي، فبعد مطاردة المعتزلة، اعتقل معتزلي بتهمة القول بـ«خلق القرآن»، فتجمع أصحابه أمام الإمارة قائلين: «أعز الله الأمير، بلغنا أنك حبست فلاناً، لأنه قال إن القرآن مخلوق، وخلفنا أُلوف يقولون كما نقول، فإما حبستنا جميعاً وإما أطلقت صاحبنا، وإذا كان السلطان أطال الله بقاءه قد ترك المحنة (خلق القرآن)، وقد أقر الناس على مذاهبهم، فلِمَ نؤاخذ نحن بمذهبنا من بين سائر المقالات؟». فأُطلق صاحبهم (التَّنوخي، الفرج بعد الشدة). تقع شدلة ضمن قضاء سورداش، حيث سفح جبل مكرون، على مرحلة من سد دوكان، قريباً من السليمانية. أُنشأ السد في العهد الملكي (1921-1958) وقطف ثمرته العهد الجمهوري، وكان من منجزات مجلس الإعمار (سوسة، فيضانات بغداد)، يوم كانت واردات النفط تذهب إلى تأسيس البنية التحتية لا إلى غاية أخرى. بدأ العمل فيه (1951)، واستعمل أول مرة في فيضان (1959). ما زال دوكان مروياً ببحيرته وزاهياً بقراه، وغنياً بأسماكه على الزاب الصغير. مر عام على احتجاجات الشباب العراقيين، بعد أن أخذت فاجعة الكرادة الكثير منهم (3/7/ 2016)، وهم يواجهون لُصوصاً لا يتورعون عن الدم، كأن لهم ثأراً مع العراق، ولشاعر يسمى الغطريف: «عليك بضرب الناس ما دُمت والياً / كما كنت في دهْر الملصَّة تُضربُ» (الحموي، معجم البلدان)، والملصة مكان اللصوصية. أقول للمحتجين سلمياً: إن لهم بالمعتزلة وحركة «حه قه» تراثاً يُقتدى به.