دعا إعلان باريس، أغسطس 2003 حول «السبل العملية لتجديد الخطاب الديني» إلى تجديد الخطاب الديني كضرورة ملحة لعبور الفجوة الواسعة التي تفصل العالم العربي والإسلامي عن العالم المتقدم، وعامل رئيس لتجديد الحياة السياسية والاجتماعية. ومنذ ذلك الإعلان وإلى يومنا هذا، شهدت الساحة العربية العديد من الجهود، سواء على مستوى المؤسسات الدينية الرسمية، أو على مستوى المراكز البحثية التي نظمت عشرات المؤتمرات والندوات حول سبل تجديد الخطاب الديني وتذليل معوّقاته، لكن النتائج المتحصلة قليلة ودون المأمول، ولم تحقق أهدافها في تحصين الشباب من فكر التطرف، وفي تفعيل القواسم المشتركة بين المذاهب والأديان، وفي تقديم خطاب ديني جديد منسجم مع الذات ومتصالح مع العالم. وبطبيعة الحال فإن المؤسسات الدينية، لا تتحمل وحدها المسؤولية، فطبقاً لإعلان باريس، فإن مهمة تجديد الخطاب الديني لا تنحصر في جهد رجال الدين المستنيرين، بل يجب أن تكون من أولى مهام المفكرين والمثقفين ومنظمات حقوق الإنسان. لكن كيف نقدم خطاباً دينياً جديداً متصالحاً مع الذات والعالم؟ في تصوري أن من أهم السبل هي: 1- ضرورة الوصول إلى توافق مجتمعي؛ سياسي وثقافي واجتماعي، سواء فيما يتعلق بضرورة تجديد الخطاب الديني، أم فيما يتعلق بكيفية هذا التجديد، إذ لا زالت قطاعات مجتمعية وفكرية تنظر إلى دعوات التجديد بشك وريبة، وتراها إملاءات خارجية (غربية) تخفي أجندة سياسية هدفها استدامة التبعية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يوجد حتى اليوم توافق سياسي وثقافي واجتماعي عام على مفهوم تجديد الخطاب الديني، فلكل مفهومه وتفسيره واجتهاده، فهناك من يرى منطلق التجديد من القرآن والسنة الصحيحة، وهناك من يركز على مرجعية القرآن وحده، بينما يرى آخرون التجديد بالتركيز على الفكر المقاصدي، ويذهب اتجاه رابع إلى «الفصل بين الدين والدولة» كمنطلق للتجديد، وهناك اتجاه خامس معني بقراءة تاريخية النصوص في سياق سياسي اجتماعي، وهناك اتجاه سادس لا يؤمن بجدوى تجديد الخطاب الديني أصلاً! وفي غيبة الرؤية الموحدة للتجديد يصعب تحقيق الأهداف المنشودة من التجديد. 2- ضرورة تخليص الخطاب الديني من أهواء التسييس، سواء من قبل الأنظمة الحاكمة أو التنظيمات السياسية التي توظف الدين. وهذه عقبة كأداء يصعب التحرر منها، فالدين منذ أن نزل وارتبطت به حياة الناس، قيماً وإرشاداً وسلوكاً وأحكاماً موجهة، وهو عرضة للتوظيف النفعي الانتهازي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ومذهبياً، ومع ذلك، فإن تفعيل آليات التغيير في المجتمعات العربية، يمكنها من الوصول إلى فهم متقدم للإسلام، متحرر من الأهواء السياسية. 3- ضرورة التحرر من سطوة المواريث الماضوية، التعصبية والتمييزية والإقصائية، والتي تشكل أغلالاً خانقة لعمليات تجديد الخطاب الديني، وهذا لن يتحقق إلا إذا آمنا بأن حلول الماضي كانت صالحة لقضايا الماضي، وغير صالحة لقضايا مجتمعاتنا المعاصرة، وأن الاجتهادات الفقهية الماضية إنما كانت بنت ظروفها المجتمعية في حقبة زمنية معينة فحسب، ولا يجوز سحبها إلى عصرنا، لذلك علينا إعلان القطيعة مع كل موروث ثقافي ينتقص من حقوق المرأة ويقيد حركتها المجتمعية ويحرمها من كل نشاط اجتماعي أو سياسي أو تنموي يخدم وطنها وأمتها. وعلينا غربلة التراث وتنقيته من كل ما يصادم حرية الإنسان وكرامته، يجب التخلص من كل موروث فقهي يزرع الكراهية ضد الآخر الديني أو يحرِّم عليه بناء دور عبادته أو تبوء المناصب القيادية، ويجب التصدي بقوة للخطب التي تقدس ثقافة الموت والانتحار وتحرض الشباب على كراهية الغرب وتدعو عليهم بيتم أطفالهم وجعل أموالهم غنيمة لنا، بحجج زائفة مثل الجهاد والاستشهاد والثأر للكرامة! على الخطاب الديني الجديد الإقلاع عن عادة لوم الآخر الغربي وتصويره عدواً متآمراً، وتحميله مسؤولية تردي أوضاعنا. وأخيراً، تبقى الإشادة بالمبادرة الإماراتية بتدريس مادة «التربية الأخلاقية» ضمن المناهج الدراسية، نموذجاً عملياً رائداً لتقديم خطاب متصالح مع الذات والعالم.