في نهاية الأسبوع الماضي، مرر مجلس الشيوخ الإيطالي، بتأييد 181 عضواً، وامتناع 16، ومعارضة 2 فقط، مجموعة من القوانين والتشريعات، الهادفة إلى خفض الفاقد الغذائي في إيطاليا بمقدار مليون طن سنوياً، أو ما يعادل خفضاً بنسبة 20 في المئة من الفاقد الغذائي الحالي، والذي يقدر بخمسة ملايين طن سنوياً. وتقدر تكلفة الفاقد الغذائي في إيطاليا وحدها، بأكثر من 12 مليار يورو (50 مليار درهم) سنوياً، وهو ما قد يعادل 1 في المئة من إجمالي الناتج القومي الإيطالي. وتأتي هذه الخطوة الإيطالية، كأحد نتائج معرض «إكسبو ميلانو 2015»، الذي كانت إحدى أهم سماته ومحاوره، مكافحة الجوع وخفض الفاقد الغذائي حول العالم. ولا تقتصر مشكلة الفاقد الغذائي الهائل على إيطاليا، حيث تقدر منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» أن ثلث الإنتاج العالمي من الغذاء يضيع هباء كل عام، وهي النسبة التي ترتفع إلى 40 في المئة في الدول الأوروبية، وتصل إلى 280 كيلوجراماً فاقداً سنوياً من الغذاء لكل فرد أوروبي، كما تقدر المنظمة أن مجمل الفاقد الغذائي العالمي السنوي، يكفي لإطعام 200 مليون شخص من جائعي العالم. وبوجه عام، يُعرّف الفاقد الغذائي على أنه: «الغذاء الذي يضيع أو يذهب هباء، ويتم التخلص منه كقمامة، دون أن يتم تناوله والاستفادة منه». ولا يتوفر تعريف واضح ومحدد متفق عليه للفاقد الغذائي، حيث كثيراً ما تعتمد التعريفات المستخدمة على الموقف والظروف، كما هو الحال عموماً مع تعريفات الفاقد أو القمامة. وكما تتعدد وتتنوع تعريفات الفاقد الغذائي، تتنوع وتتعد أيضاً أسبابه، التي يمكن أن تكون خلال إنتاج الغذاء أساساً، أو خلال توزيعه، أو تصنيعه، أو عرضه للبيع، أو استهلاكه. فعلى سبيل المثال، يتباين حجم الفاقد الغذائي بشكل كبير بين النظم الزراعية الضخمة المميكنة، أو ما يعرف بالزراعة الصناعية، وبين نظم الزراعة الفردية أو العائلية، صغيرة الحجم ومحدودة المساحات، والتي تعرف أحياناً بزراعة الكفاف، أي التي توفر فقط حد الكفاف. ففي النظم الضخمة، يحدث الفاقد الزراعي في جميع المراحل، وغالباً ما يكون بحجم ملحوظ. وعلى رغم أنه في نظم زراعة الكفاف، لا يمكن بسهولة تحديد حجم الفاقد، فإنها غالباً ما تكون أقل بكثير من نظم الزراعة الصناعية، نتيجة لمحدودية المراحل التي يمر بها الغذاء في المزارع الصغيرة، التي كثيراً ما تكون من مرحلتين اثنتين فقط، من المزرعة إلى طاولة الطعام مباشرة، ويحدث الفاقد الغذائي في زراعة الكفاف غالباً، بسبب سوء التخزين وانعدام البرادات. وتظهر الدراسات والإحصاءات أن الأسباب الرئيسة لفقدان الغذاء وضياعه، حتى في الدول متوسطة الدخل، تتضمن الآتي: 1- تخزين كميات من الطعام تفوق الحاجة. 2- سوء الطهي، والإفراط فيه حتى احتراق الطعام. 3- ملء الطبق الشخصي بما يفوق احتياجات واستهلاك الشخص، وعدم الرغبة لاحقاً في تناول بقايا الطعام. 4- فساد الطعام بسبب سوء التخزين، أو التخزين لفترات طويلة تتخطى فترة الصلاحية. ومن السهل إدراك أن غالبية هذه الأسباب، هي أسباب ثقافية وسلوكيات شخصية، تنتج عن معايير مختلة للضيافة والكرم، ومفاهيم خاطئة عن واجبات الأم المثالية، وبسبب تفشي العقلية الاستهلاكية المتجسدة في فرط الشراء والاستهلاك، والنظرة الثقافية العتيقة لوفرة الطعام، على أنها أحد مظاهر الثراء وسعة الرزق. وهذه الثقافة الغذائية تتجسد في أوقات الولائم والعزومات، حتى تلك التي تتم على المستوى العائلي. ففي الثقافة العامة، وخصوصاً العربية، عند دعوة عائلة أخرى أو مجموعة من الأصدقاء لعشاء في المنزل، تعمل الأسرة المضيفة على أن تكون كمية ما سيتم تقديمه من طعام، تفوق احتياجات المدعوين، بضعفين أو ثلاثة أضعاف أحياناً، كنوع من الكرم والاحتفاء، وخوفاً من أن ينعتوا بالبخل والتقتير. وكنتيجة طبيعية، يتبقى جزء كبير من الطعام الذي قدم إلى الضيوف -ربما نصفه أو أكثر- ليتم تخزينه، ولكن نادراً ما يستهلك لاحقاً، بسبب عزوف أفراد الأسرة -وخصوصاً الأطفال- عن تناول بقايا الطعام، أو الاستمرار في تناول نفس الصنف أو الأصناف لعدة أيام متتابعة. وهذا السيناريو، وأمثاله، ليس بالنادر أو الغريب على كثيرين منا، وخصوصاً في شهر رمضان، وفي المناسبات والأعياد الدينية، والاحتفالات الاجتماعية. فكلنا دون استثناء، على دراية تامة بالسلوكيات الشخصية، والمعتقدات الاجتماعية، التي تدفع بملايين الأطنان من الغذاء عالي الجودة نحو حاويات ومقالب القمامة، في الوقت الذي يتضور فيه مئات الملايين من البشر جوعاً، وتلقى أعداد كبيرة منهم حتفها بعد أن يأخذ الجوع منها مأخذه. وهو ما يجعل جزءاً لا يستهان به من قضية الفاقد الغذائي العالمي، مسؤولية فردية في جوهرها، تفرض علينا جميعاً أخذ زمام المبادرة الشخصية نحو حفظ هذه النعمة التي أنعم الخالق علينا بها.