كان العالم الكبير الدكتور أحمد زويل، الذي غيّبه الموت الثلاثاء الماضي عن سبعين عاماً، شهادة لنا نحن العرب، بقدر ما هو شهادة علينا. فهو بجنسيته وتكوينه الاجتماعي في الطفولة وريعان الشباب، ومنهله العلمي في مراحل التعليم الأساسي حتى الدكتوراه، ابن للمدرسة والجامعة والحياة الإنسانية في مصر المعاصرة، ولكنه بقفزاته العلمية الكبرى، التي جعلته يحوز جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999، هو نتاج سياق علمي مختلف، لم يبذل العرب الجهد الكافي كي يوفروه لعلمائهم، لا سيما في مجالات العلوم البحتة، فهاجروا إلى الغرب، وبرعوا فيه، ولاقوا هناك الحفاوة والتقدير اللذين يليقان بذكائهم، وجهدهم، وطموحهم الفائق. لقد كتب كثيرون دراسات مستفيضة عن «نزف الأدمغة» و«هجرة العقول» وصرخ كاتبوها في وجه السلطات المتعاقبة، والمؤسسات المعنية، كي تتدخل وتوقف النزيف والهجرة، ولكن السنوات مرت، وضاع الصراخ في البرية، ولم نفعل ما يصنع بيئة علمية مناسبة، تنمو فيها قدرات الأذكياء والنجباء والموهوبين في كافة التخصصات، كي يعرفوا أكثر، ويجربوا ويبدعوا وينتجوا كل ما من شأنه أن يدفع مجتمعاتنا إلى الأمام. لقد صارت البيئة العلمية لدينا طاردة للنوابغ جراء أسباب عدة أولها، تدني مستوى الإنفاق على البحث العلمي، إذ يهبط نصيبه من الناتج القومي إلى المرتبة الأدنى في سلم الأولويات والنفقات، وتفتر الهمم في إصلاح هذا الخلل والزلل، بينما تُستفز وتُستنفر لأوجه أخرى للإنفاق بعضها لا يتجاوز الترفي والعابر. وما يزيد الطين بلة أن المجتمع الأهلي والمدني والموسرين قلّما يلتفتون إلى رعاية مؤسسات علمية أو علماء، أو يشجعون إجراء بحوث، سواء في العلوم التطبيقية أو الإنسانية، أو يتبرعون لمعامل ومراكز أبحاث جامعية. كما أن أغلب رجال الصناعة لا ينفقون على البحث العلمي من أجل تحسين منتجاتهم، أو اكتشاف منتجات وسلع جديدة، ودفع صناعاتنا إلى الأمام، بما يمكّنها من القدرة على المنافسة في السوق الدولية المفتوحة بلا قيود أو سدود. وثانيها أننا نضع من العراقيل أعقدها أمام مسيرة الباحثين، فنكبّل حريتهم الأكاديمية بقوانين ولوائح، ونتركهم نهباً لسلطة المكاتب في الجامعات، ومراكز البحوث، وإدارات الدولة، فيتبدد جزء كبير من جهدهم في ما لا فائدة منه تُرجى، ولا نفع يُنتظر، وكان الأولى أن تذهب الطاقة، ويُخصص جلّ الوقت، لإجراء التجارب المعملية، والبحوث الميدانية، والاطلاع على الدراسات والأبحاث الجديدة، والنقاش مع الزملاء، لإثراء حوار قد يقود، عبر عصف ذهني، إلى أفكار إبداعية. وثالثها، وهي أصيلة وجذرية، تتعلق بمناهج تعليم لا تُزكي العقول المبدعة، بل تحتفي بأولئك الحافظين، أو من يسميهم الفيلسوف الكبير زكي نجيب محمود «الحفظة المتعالمين»، وبالتالي فهي تُضيِّق الفرص أمام النبوغ والتميز منذ الصغر، إلا من يتمكن بجهده الذاتي، أو برعاية ذويه أو أستاذ يتبناه علمياً، من أن ينجو بنفسه من هذا الفخ المهلك، فيزيد في اطلاعه الحر، ويعمق تجاربه، فتتسع مدركاته، ويكون بوسعه أن يميل إلى الإفادة والإضافة. أما رابعها فيقع على عاتق أجهزة الإعلام التي تعرض أحياناً ألواناً من البرامج والأعمال الدرامية والسينمائية التي تحط من شأن العلم والعلماء، وتنتصر للسطحي والتافه، وتجعل طريق التمكن وحيازة المكانة مربوطاً بالمصادفة أو الحظ أو القرابة أو الوساطة أو القدرة على الخداع، وليس ببذل الجهد والدأب، وإتقان العمل، والمضي في الطرق التي تنفع الناس، والانتصار للقيمة، وعدم استعجال العائد، معنوياً كان أو مادياً، بل الاستعداد للتضحية، والامتلاء النفسي بأهمية دور العلم، ومكانة العلماء. لكل هذا لم يتمكن زويل، وغيره، من الاستمرار في هذه البيئة العلمية الطاردة، فخرجوا آسفين إلى جامعات ومعاهد ومراكز أبحاث أجنبية في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية وغيرها، ففتحت لهم الأبواب كي يحققوا أحلامهم وطموحاتهم في العلم ومن أجله، وكذلك من أجل مصالح الدول التي استوعبتهم، وكان الأولى ببلادنا أن تستفيد من هؤلاء الذين أجبرناهم على الرحيل ومكابدة الغربة والاغتراب، فإن حصلوا على جائزة كبرى، أو احتفى بهم رؤساء دول، أو توصلوا إلى مخترعات واكتشافات ذائعة الصيت التفتنا إليهم، وتحدثنا عنهم، وسارعنا خلفهم نمحنهم المدائح والجوائز، فإن ماتوا تمسحنا فيهم، ونسبناهم لأنفسنا فقط، ونسينا ما فعلناه بهم في الأيام التي خلت.