من بين بني البشر جميعهم، يعاني حالياً 285 مليوناً من قصور البصر، منهم 39 مليوناً مصابون بفقدان البصر أو العمى التام -غالبيتهم تخطوا العقد الخامس من العمر- أما الـ246 مليونا الباقون فيمكن وصفهم بأنهم مصابون بضعف البصر فقط. والمؤسف أن 80? من حالات قصور البصر، بأنواعه ودرجاته المختلفة، هي نتيجة أسباب كان من الممكن تجنبها والوقاية منها، أو علاجها والشفاء منها. ومن المنظور العالمي، تعتبر عيوب الانكسار، مثل طول النظر، وقصر النظر، و«الاستجماتيزم»، الأسباب الرئيسة خلف ضعف البصر المتوسط والشديد، أما بالنسبة إلى فقدان البصر التام، فتعتبر «الكتاراكت» أو قتامة عدسة العين -المياه البيضاء- السبب الأهم، خصوصاً في الدول متوسطة الدخل والفقيرة. وتُظهر الإحصاءات والتقديرات الدولية، أن الطب الحديث قد نجح خلال العقدين الماضيين في خفض أعداد من يصابون بقصور البصر، نتيجة نوع أو آخر من أنواع الأمراض المعدية، إلا أنه يظل هناك مرض من طائفة الأمراض المعدية، يصنَّف كإحدى مشكلات الصحة العامة في 42 دولة من دول العالم، ويعتبر مسؤولاً عن إصابة 1,9 مليون شخص بضعف البصر أو فقدانه التام، وهو مرض «التراكوما». والتراكوما ببساطة، هو مرض معدٍ يصيب العينين، يتسبب فيه نوع خاص من البكتيريا (Chlamydia trachomatis)، وتنتقل العدوى بهذه البكتيريا عبر الاتصال الشخصي المباشر، من خلال اليدين، أو الملابس، أو الأفرشة وأغطية الأسرّة، أو من خلال الذباب، بعد أن يحط على إفرازات العينين، أو الأنف، لشخص مصاب بالمرض، لينقل بعدها البكتيريا إلى الآخرين. ولا تتسبب البكتيريا سابقة الذكر في ضعف أو فقدان البصر بشكل سريع أو مباشر، وإنما نتيجة ما تحدثه من تلف في أنسجة جفون ورموش العينين، أحياناً عبر سنوات وسنوات، وبعد مرات عديدة من التعرض للعدوى. وتتسبب هذه العدوى في خشونة السطح الداخلي لجفن العين، مقارنة بطبيعته الملساء، كما أنها تتسبب في انقلاب رموش العين إلى الداخل. وكنتيجة لخشونة السطح الداخلي لجفن العين، والاحتكاك المستمر للرموش بالجزء الأمامي الشفاف من العين، أي القرنية، تصبح القرنية معتمة، ويصاب المريض بضعف البصر التدريجي، ثم فقدان البصر التام في الحالات المتأخرة. وتشمل أعراض الإصابة ببكتيريا التراكوما الآتي: إفرازات من العينين، قد تصبح صديدية إذا حدثت عدوى ثانوية بنوع آخر من البكتيريا، وتورم جفون العينين، وانقلاب رموش العينين للداخل، وتورم الغدد الليمفاوية الواقعة أمام الأذنين، وحساسية للضوء الساطع، وزيادة ضربات القلب، ومضاعفات إضافية في العينين، أو الأنف، أو الأذن. ويعتبر تقرح القرنية، وإصابتها بالندب والقتامة، أهم مضاعفات الإصابة بالتراكوما. وبخلاف الثمن الإنساني الفادح للتراكوما، يفرض هذا المرض عبئاً اقتصادياً هائلاً على الأفراد، وعلى المجتمعات التي يقطنون بها، حيث تتراوح كلفته الاقتصادية، المتجسدة في الفاقد الإنتاجي بسبب فقدان وضعف البصر، ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار سنوياً، وترتفع هذه التكلفة إلى 8 مليارات إذا أُضيفت المضاعفات الأخرى. وتعتمد السن التي تظهر فيها مضاعفات التراكوما -بعد تكرر التعرض للعدوى- على عدة عوامل، مثل مدى توطن وحدة المرض داخل مجتمع ما، أو بين أفراد قطاع أو فئة داخل هذا المجتمع. حيث يمكن أن يحدث ضعف البصر، أو فقدانه التام مثلاً في سن الطفولة، بين الأطفال القاطنين في المناطق المتوطن بها المرض بشدة، وإن كان في الغالب ما تظهر مضاعفات المرض في شكل ضعف أو فقدان البصر خلال العقد الثالث أو الرابع من العمر. وأمام هذا الثمن الإنساني والتكلفة الاقتصادية لمرض من الممكن الوقاية منه، ومن الممكن علاج مضاعفاته، اعتمدت دول العالم قراراً خاصاً عام 1998 ضمن فعاليات جمعية الصحة العالمية، يهدف إلى القضاء على «التراكوما» كمشكلة صحة عامة، بحلول عام 2020. وتعتمد استراتيجية تحقيق هذا الهدف على أربعة محاور رئيسية: 1- توفير العلاج الجراحي للحالات المتأخرة. 2- توفير المضادات الحيوية لعلاج العدوى البكتيرية. 3- نشر الوعي الصحي بأهمية نظافة الوجه واليدين. 4- تحسين الظروف البيئية، خصوصاً توفر المياه النظيفة ونظم الصرف الصحي الحديثة. وتسير حالياً هذه الاستراتيجية بخطى واثقة نحو تحقيق أهدافها، حيث شهد عام 2015 تلقى 185 ألف شخص من الحالات المتأخرة العلاج الجراحي المناسب، وفي نفس الوقت تلقى 56 مليوناً آخرون العلاج المناسب بالمضادات الحيوية. وبحلول الأول من مارس عام 2016، أعلنت سبع دول، هي: الصين، وإيران، والمغرب، وعمان، وجامبيا، وغانا، وميانمار، تحقيقها هدف القضاء على التراكوما بين أفراد شعوبها، وهو ما يعتبر علامة فارقة على طريق القضاء على هذا المرض في جميع دول العالم.