نطلع في كل يوم على مناقشات مختلفة بين الأكاديميين ومثقفي السياسة حول العولمة، بكل جوانبها (العلم، التقدم التكنولوجي وحركة الأشخاص)، وآثارها على الدول. يرى البعض أنها تشكل تحدياً أمام المجتمعات ويرى البعض الآخر أنها تهديد يواجه الحضارات والهوّيات وتضر بالتماسكات المجتمعية. وبالطبع هناك المتفائلون الذين يحاولون استغلال فرص العولمة كالاحتكاك بالحضارات الأخرى والاستفادة من خبرات المنتقلين إلى العيش في الدولة. مقاربات عديدة اعتمدتها حكومات دول مختلفة لمواجهة هذه التهديدات والتحديات. هناك من اختار تجنبها، الأمر الذي أدى إلى انعزاله عن العالم وفقدانه إيجابية الترابط الاقتصادي وفوائد التحالفات الدولية. وهناك من اختار المضي معها بشكل كامل وبالتالي أفقدته هويته الأمر الذي أجبره على العودة ومحاولة بنائها من جديد ليستغني عن تاريخه وحضارته في المقابل. لا أتفق مع هذه المقاربات كونها مقاربات يعتمدها المتفاعلون مع الحدث لا المبادرون. كذلك، من خلال دراستها، أجدها لا تعتمد على التقييم والتحليل العميق والدقيق للاستراتيجية. إلا أن عدم اتفاقي لا يلغي الحرص من الأخطار الناجمة عن الحياة في قرية صغيرة يتداخل ويتدخل بها القريب والبعيد دون مراعاة السيادة والقانون، وتنقل بقوتها أفكاراً قد لا تتناسب مع المجتمع المستقبل لها. تطوير الهوية ولكوني إماراتي أتباهى بإخلاصي واجتهادي لما هو في صالح الوطن؛ استراتيجياً، يجب أن أبحث عن الفرص التي يساهم تحقيقها في ازدهار ورفعة الوطن. إلا أن المقاربة الأفضل، والتي من الممكن أن تساهم في حماية ما يمكن للعولمة تدميره تتمثل في تطوير الهوية الوطنية نفسها من خلال تدعيم الثقافة الإماراتية الأصيلة بالمعرفة والوعي الوطني وترسيخها في كيان المواطن الإماراتي. يسود الحس الوطني العالي في دولة الإمارات بشكل كبير ومؤثر بين جميع فئات المجتمع خصوصاً فئة الشباب. ولا يمكن لأي كان أن ينكر أو يجرد الإماراتي من وطنيته، وهو الذي استحق إشادة العالم بوطنيته نتيجة ما قدمه من ثقافة وطنية خالصة حتى ما قبل اتحاد الإمارات وإعلان قيام دولة الإمارات في الثاني من ديسمبر عام 1971، هنا يبرز البعد التاريخي مروراً بحرب أكتوبر إلى فترة التطوع في حرب الكويت إلى حرب اليمن والمشاركة في إعادة الحق والشرعية، علاوة على الكثير من المساعدات الإنسانية وتقديم يد العون إلى كثير من الأوطان التي لحقت بها الأزمات الطبيعية، أو الأزمات التي صنعها الإنسان دون إنسانية. زايد (رحمه الله) خاطب الشباب الإماراتي وشهد لهم بإخلاصهم ومواقفهم بطرق وأدوات عديدة أجزل لها الشعر، وتغنى بأشعاره (مثل، يا شباب الوطن، يا ذا الشباب الباني، يا ذا الشباب اللي غطاريف). الجميع حتى الشباب أنفسهم، فخورون بهذه الشهادة السامية من المقام السامي. كذلك في حديث لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد قال إن ما نسبته 99.9%‏ من شباب الإمارات مخلص، ولو كان الكمال لغير الله لقال سيدي (حفظه الله) بكل ثقة إن النسبة هي 100%. الثقافة الإماراتية الوطنية المتأصلة والتي لا خوف على ثباتها ورسوخها تتسم بسمات وقيم ومشاعر عميقة وجميعها تتميز بالإيجابية تجاه الوطن سواء في حالة السلم أو الحرب، إلا إنها في مهمة تحقيق وحماية مصالح الوطن لا يمكن الاعتماد عليها وحدها. لنعد وننظر إلى قصائد الشيخ زايد (رحمه الله) ذاتها التي شهد فيها بإخلاص الشاب الإماراتي، سنجد أن حكيم العرب وجّه الكثير من الرسائل التوعوية فهو (رحمه الله) أراد من الشباب الإماراتي أن يمارسوا وطنيتهم بوعي وبشكل سليم وعميق. لنأخذ قصيدة، (يا ذا الشباب اللي غطاريف) كمثال. في بداية القصيدة قال زايد (رحمه الله): «يا ذا الشباب اللي غطاريف، هبوا لوقت السعد لي زان» لو اكتفى (رحمه الله) بذلك لهب الشباب الإماراتي مطيعاً القائد في خدمة الوطن كون ثقافته تجعل منه مستعداً دائماً، وتحت أي ظرف للذود والدفاع عن وطنه. ولكن، في البيت الذي يليه قدم زايد إلى الشباب ما يوجههم في طريق خدمة الوطن، قال (هبوا بعقل وحسن تصريف، معكم ثقافة وعلم وإتقان)، أي أن الشباب ليسوا مطالبين لتأدية واجبهم المقدس في خدمة الوطن بالعمل فقط، بل يجب أن يصاحب العمل الوطني علم ووعي وثقافة، وأن يكون هذا العمل المراد به خدمة الوطن متقناً وسليماً. نتذكر أيضاً حديث سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد عن عملية بناء الأوطان وضرورة مشاركة المواطن وأهمية النوعية التي يجب أن تعمل للوطن وإرادة الرجال التي أوصى بها. فقد طالبنا بألا نستهين بها كما جاء في حديثه مع منتسبي الخدمة الوطنية. كذلك مطالبته أبناء الإمارات باختيار المكان والوقت والكيفية الصحيحة والمناسبة إذا أردوا أن يستحقوا فعلاً لقب أبناء زايد. هنا تفرض أهمية الوعي الوطني نفسها لتحقيق ما يطالبنا به قادتنا وما تمليه علينا وطنيتنا. أهمية استراتيجية الوعي الوطني إلى جانب الوعي بالمحافظة على موارد الدولة كالمياه ومصادر الطاقة من حيث ترشيد الاستهلاك، وأي جانب في الاجتهاد وتقديم الأفكار التي من شأنها المساهمة في تقوية اقتصاد الدولة وازدهاره، تشير ضرورات الأمن الوطني إلى تهديدات وأخطار رئيسة، من شأن نشر الوعي الوطني أن يساهم في التغلب عليها. ولعلنا نذكر في هذا الخصوص: أولاً، التصدي للفكر الإرهابي. إذ شهد العالم ظهور الجماعات المتطرفة والإرهابية، التي لا تعترف بالشرعية، منذ فجر التاريخ، إلا أن ظهورها في عصرنا هذا وممارساتها صارت لا تقتصر على أماكن معينة. فهي مستعدة لزعزعة الأمن في أي مكان وفي أي وقت. فالعلم والتكنولوجيا جعلا من العالم قرية صغيرة تعبر من خلالها الأشياء والأفكار، وتجتاز حدود الدول من دون مراعاة لسيادتها وقوانينها، وهي الأدوات ذاتها المستخدمة لدى المنظمات والحركات الإرهابية. كما تشير الكثير من الدراسات والبحوث الدولية المدعمة بالكثير من التقارير إلى أن الجماعات الإرهابية تستهدف الشباب بسبب حماسهم وقلة وعيهم. كذلك يعلمون جيداً أن تلك الفئة هي التي تحركها العاطفة مما يجعلها الأسرع والأسهل استهدافاً، وهو ما يمكن من الوصول إليها واستقطابها. ثانياً، إيران. فالخطر الإيراني على المنطقة كبير. إيران الدولة الوحيدة التي سخرت كيانها السياسي لنشر أيدولوجيتها المتطرفة، حيث تستخدم أدوات أيدولوجية للتوغل داخل المجتمعات حتى صرنا مشغولين بالعدو الذي بين ظهرانينا. إيران لم تهتم بنوعية الفئة المستهدفة، فأهم شيء بالنسبة إليها هو اختراق المجتمعات. وشهدنا الدلائل في مجتمعات مختلفة في قارة آسيا بشرقها وغربها وفي أفريقيا. في الخليج، استخدمت إيران «الحوثي» بعد أن أعدته الإعداد الذي كنا بعيدين عن رؤيته، إلا أن رحمة الله بنا شاءت أن يحين وقت سلمان ومحمد الحزم. ثالثاً، حركات الإسلام السياسي. فالتحدي والخطر القادمان مع حركات الإسلام السياسي لا يقلان شأناً عن خطر التطرف والإرهاب وإيران. نستطيع القول إن هذه الحركات استطاعت أن تخلق مزيجاً في ممارساتها فكل من الإرهاب وإيران هما النتيجة المباشرة للإسلام السياسي. من المعروف أن حركات الإسلام السياسي تمثل تنظيمات غير حكومية وعابرة للدول، على عكس إيران، استخدمت التطرف والإرهاب لتحقيق أهداف سياسية. كذلك تستهدف حركات الإسلام السياسي المجتمعات وتعمل على التأثير من خلالها على الحكومات الشرعية لتحقيق أغراض سياسية. تمكنت جماعة «الإخوان المسلمون» من الوصول إلى السلطة في مصر بعد أن استقطبت وجندت الموالين، وبعد أن خدعت المتعاطفين وأكثريتهم من فئة الشباب. قدمت حاضنة الإرهاب نفسها كحل بعد أن قامت، هي نفسها، بزرع المشكلات وتزوير الفشل لكل ما، ومن، يقف أمام وصولها، وكل ذلك حدث بسبب قلة الوعي حتى أن بعضاً من الذين يعلمونهم جيداً طالب بإعطائها الفرصة لإثبات حسن النوايا. الثقافة الوطنية والوعي حاجة وليسا خياراً نحن بحاجة إلى استراتيجية ندعم بها ثقافتنا الوطنية بوعي وطني شامل لنحقق حينها المعادلة المتكاملة للهوية الوطنية (ثقافة + وعي). هذه المعادلة تمثل الثقافة الأساس والدافع لتكون القاعدة التي ننطلق منها إلى ممارسة وطنيتنا في ميادين الخدمة. أما الوعي فهو الكفيل بجعلنا نبحث في ثقافتنا وما سجله التاريخ، وبوضع نتائج البحث مع معطيات الحاضر وبالمرور بهم في مراحل التقييم والتحليل سنتمكن من التسلح بالمعرفة اللازمة لممارستها بالشكل الصحيح والسليم، والتي ستكشف لنا فرضيات المستقبل. متى انتشر الوعي الوطني وتعرفنا بشكل أكثر على المصالح الوطنية والأهداف المراد تحقيقها، نجد أنفسنا مسؤولين عن تحقيقها وحمايتها، وبالتالي سنعمل بإخلاص أكثر وستخلق أمامنا المساحة الكافية لضمان الإبداع والابتكار الموجه لما يخدم الإمارات. سيشكل الوعي الحاجز الوقائي والتحصين اللازم ضد أي هجمات أيديولوجية مغرضة تمس دين الوسطية والاعتدال والتسامح، أو تستهدف الوحدة والتماسك المجتمعي، أو تضر بقيمنا وعاداتنا السامية. الوعي سيجعل الإماراتي محصناً ذاتياً وحريصاً على أن تكون كل مواقفه تجاه الوطن إيجابية. وبالوعي، سنستخدم الأساليب المناسبة للقيام بواجبنا تجاه الوطن في كل الأحوال، وسندافع عن وطننا ونحن مدركين أهمية سمعته، وسنشارك بفاعلية أكبر في حماية أمنه. لكي نكون فعلاً أبناء زايد ورجال خليفة، ولنحقق ما أوصانا به محمد بن زايد، يجب أن نضع أحاديثهم وأفعالهم أمام أعيننا وفي عقولنا وأن نستخلص ما يدعمنا وينفعنا في خدمة الوطن. فالابن ينصت ويتعلم من والده. عندما قالت بريطانيا أولاً إن الاتحاد الذي يسعى له زايد في الإمارات لن يتحقق، قال لهم: «أنا لست مؤمن بكلامكم ولا بخبراتكم، أنتم تأخذون الجواب من ثلاثة أو أربعة وتؤمنون به، أما أنا فلا، أنا فقط مؤمن بإرادة الخالق عز وجل، بما يريده هو، وأنا أعلم أن البشر إذا رأوا الطريق الذي يسعدون فيه، يسيرون فيه، وإذا رأوا الطريق الذي لن يكونوا سعداء فيه، سيعودون عنه، لأنهم ليسوا شخصاً واحداً بل أمّة، إن الله مع الجماعة». إذاً، لنكون في طاعة الوالد، علينا أن نرى الوطن كأمة، ويجب أن نفهم كمجتمع مصالح الإمارات كدولة وطنية (الأمن، الاستقرار، الازدهار الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والاتحاد المصلحة الأسمى). علينا أيضاً أن نقيّم بدقة البيئة المحلية والإقليمية والدولية، ونكون متابعين لا بعين العاطفة ونفهم ما يدور من حول وطننا الغالي. وبالتحليل العميق سنتمكن كوننا مبادرين من التنبؤ بالأخطار والتهديدات التي تستهدف المساس بمصالح الوطن. كذلك سنجتهد للأخذ بالفرص المتاحة من أجل رفعة الوطن وازدهاره. فمتى ساد الوعي، فسيعمل المواطن الإماراتي متفهماً الأهداف الوطنية وسنجده يسخر كل الأدوات والطرق في سبيل تحقيقها. *كاتب إماراتي