نحن الآن في صيف عام 2016، وقد مرّ على أول استخدام للسلاح النووي 71 عاماً، وقد يكون الأخير، وقد لا يكون أيضاً، ففي حرب 1973 استنفرت «دولة صهيون» سلاح المعبد أو ما يسميه «سيمور هيرش» في كتابه الموسوم «خيار شمشون». وكل مفاوضات أوباما مع ملالي طهران كانت حول تخفيف جو الهواجس النووية ولو إلى عقد من الزمن! وحين نسمع من كوريا الشمالية أن حفيد سلالة «كيم» قد صنّع قنبلة هيدروجينية وبنى صواريخ عابرة حتى إلى اليابان، وربما أبعد، فإن الأمر جد وليس بالهزل. وجدل الإنسان محير وجنونه وارد فهو أحياناً مزيج من الحكمة وبالوعة الضلال بتعبير الفيلسوف الفرنسي باسكال! وقد يقول قائل إن قصة السلاح النووي انتهت، ولكن الحقيقة أن القصة لم تنتهِ بل لعلها بدأت، وليس ثمة خلاص إلا بنزع السلاح النووي من كل العالم، وهذا يحتاج دولة عالمية واحدة في الحضارة الإنسانية رقم واحد، بتعبير الفيزيائي الأميركي «ميشيو كاكو». ولكن بيننا وبين بناء الدولة العالمية مئات السنوات، وليس مثل الشر خراباً والعمار صعوبة، وبناية البرج المزدوج في نيويورك لم يتطلب هدمها ومن حولها إلا ارتطام طيارة مجنونة بها، فهوت في نصف ساعة! وحالياً معظم سوريا أصبح أنقاضاً بفعل براميل نظام بشار، ولكن نهوضها من جديد من تحت الرماد، قادم وأكيد، بفعل غريزة الليبيدو (الحياة) المضادة لغريزة التانتوس (الموت). وقد يحتاج إلى نصف قرن في ترميم الأبنية، وقرنين لترميم الأحقاد بين الفرق المتحاربة المفجوعة بالثكالى والأيتام والأرامل. وفي الذاكرة مأساة المنكوبين في حماة على يدي الأسد الأب الذي ظن أنه أراح واستراح فقامت الأرواح الحاقدة من الظلام تسعى للانتقام. وأنا شخصياً عملت في جنوب ألمانيا فلاحظت أثر الشروخ بين البروتستانت والكاثوليك ومشافي أبناء الطائفتين أكثر من أن تعد وراهباتهم ورهبانهم يواصلون عمل الليل بالنهار لا يسأمون وربما من دون راتب، وهو ما سيحصل بين متحاربي المذاهب في منطقتنا، وهو دليل جديد على أن حماقات البشر ونزاعاتهم مثل تركيب الجينات في نواة الخلية. وفي المقابل فإن نهضة ألمانيا من حرب الثلاثين سنة بين عامي 1618ـ 1648 تطلبت جيلين على امتداد ثمانين عاماً، كما أن ألمانيا الحديثة هدمت بسهولة بقاذفات القنابل، وقام الشعب الألماني من وهدة الدمار فبناها، ولكن بنصب وعذاب ومشروع مارشال الذي أفاض عليها بمليارات الدولارات. حين قرأت مذكرات المصور الياباني «يوشيتو» عما رأى في جحيم هيروشيما أصابتني قشعريرة في التصور، فكيف بمن عاش المشهد: كان ركاَّب الترام في منظر مفزع حقاً، فبعضهم قد تمزق وسقط أرضاً، ولكن كثيرين كانوا يجلسون في مقاعدهم، قد حافظوا على هيأتهم كما كانوا، وكأن شيئاً لم يحدث، ومما لفت نظري يومها اثنان ما زالت أيديهما تقبض على أحزمة الجلد مثل مخالب الصقور، وكأنهما أمسكاها لتوهما، بعد أن أعلن الترام الصفير وبدء التحرك إلى المحطة التالية. وكان وجهاهما بلون عجيب، فكأنهما طليا بفحم المداخن الأسود. كانت الوجوه الجميلة قد شوهت بكل السخام الفظيع. كانت المحافظ بجنب الناس بدورها متفحمة، وكانت المظلات وأشياء أخرى كثيرة من حاجيات الناس اليومية قد أكلتها النيران، وحولتها إلى قطع متفحمة شوهاء بلهاء. كان الشيء المشترك والمريع -يتابع المصور الياباني قصته- والذي ترك في نفسي أثراً لا يمحوه مرور الليالي، هو تلك الوجوه والنظرات الفارغة من المعنى، المحملقة في الأفق البعيد، بعد أن غلفها البلى وعانقت الموت. الموت الذي جاءها من بعيد من أميركا، الذي عرفنا لاحقاً أنه جاء من لوس آلاموس. كأن الناس في متحف شمع، ولكن بلون أسود قاتم، قد انطفأت الحياة وتوقفت فيها كما تخيلت «مدام دي توسو» في لندن عفواً في اليابان. ويبقى السؤال لماذا لم يصور تلك الوثائق التي لا تقدر بثمن للجنس البشري؟ يجيب المصور الياباني «يوشيتو ماتسوشيجي»: كان سببه التقاليد اليابانية، التي تنهى عن النظر في وجوه الأموات والمصابين، والتعليمات الصارمة العسكرية، بأن لا تصور المشاهد المروعة والمقيتة من الجثث المشوهة، كي لا يفت ذلك في عضد الناس، وتنهار المعنويات. كان العسكريون يريدونها جذعة لاتهدأ. يريدونها ناراً تتلظى بالقرابين البشرية من دون انقطاع! لم يكن المصور يدري أن ما رأته عيناه، كان المشاهد الأولى من حرب نوعية جديدة، قفزت فيها القوة إلى سقف النجوم المستعرة، وأنه قد دخل عصر الذرة.