تجمع الأمثال العامية والثقافة الشعبية المصرية بصفة عامة على أنه مهما أتى الفلاح من خير إلى الناس فإنه غير مقبول بشخصه، ومهما حرث وزرع وحصد وقدم محصوله لسكان المدينة فإنه مرفوض لسوء حاله وجهله ومرضه، يؤخذ منه عمله ويرفض له وجوده كإنسان «يغور الفلاح بزيارته وحمارته». وكان الفلاح في عصر الإقطاع يعمل بلا أجر، يعمل سخرة، وقد تعمل قرية بأكملها سخرة ويقع العبء كله على كاهل القرية «العونة (السخرة) يا فلاحين قال من كل بلد راجل» فهذه ضريبة من ساعديه على أن يدفعها لصاحب الأرض أو للسلطان أو لفرعون في العصور القديمة. إن أقصى ما يطالب به الفلاح هو قوت يومه، أن يكفيه رزقه للعيش، وأن يكون لديه الحد الأدنى منه، أي ما يستطيع أن يقيم به أوده، فإذا تحقق له ذلك أصبح سلطان زمانه «فلاح مكفي سلطان مخفي». كما أن أقصى ما يتمناه الفلاح هو الماء، وأن ينحدر إليه الماء من أعلى حتى يستطيع سقاية الزرع، وتقاس قدرة الفلاح بهذا المقياس «إن كنت فلاحاً ولك مقدرة على فحلك (الجدول) من وراء». وواضح أن السقاية تتم بالطريقة الطبيعية بأن يهبط الماء من أعلى إلى أسفل من دون أن يصعد الماء من أسفل إلى أعلى كما تفعل ماكينات الري، فالماء هبة من الله، وصدقة الإقطاعي، وكالمطر بالنسبة للزارع في الصحراء «إن نظرت على السلاح (سلاح المحراث) يا سعد الفلاح». والفلاح يموت دون مائه فالماء حياته «ما يموت على السد إلا قليل الفلاحة»، فالفلاح كان ينتظر أن يروى الإقطاعيون أولًا ثم يموت انتظاراً لما يتبقى من ماء ليروي قيراطه. وقبل الثورة المصرية في 1952 كان هناك ألفا إقطاعي يملكون خمس الأراضي، ويستغلون ثلاثة ملايين من الأجراء الزراعيين، ودخل الإقطاعي ستون ألفاً من الجنيهات. وكانت بعض العائلات يملك أكثر من ثلاثين ألف فدان بالمقارنة إلى ثلاثة ملايين من صغار الملاك الذين يملكون فقط ابتداء من خمسة أفدنة إلى بضعة قراريط، حيث لا يزيد متوسط دخل الفرد على ثمانين جنيهاً هو وأسرته. والملاك كلهم حالياً ثلاثة ملايين ويبقي حوالي اثني عشر مليوناً لا يملكون شيئاً، ويقل دخلهم السنوي عمن يملك نصف فدان أو عن أقل درجة في السلم الوظيفي. وتصور الأمثلة الشعبية وضع من لا يملكون، وهم الغالبية العظمي من الفلاحين «لا بيت ملك ولا طاحونة شرك» أو لا البيت ولا الغيط «وبالتالي فهو فلاح لا صلة له بما يحدث في الأرض «لا له في الطور ولا في الطحين»، ولا دور له فيما يحدث في بلده. ويدرك الحس الشعبي الإقطاع الجديد المتستر في الريف «اللي يأكل كباب يبقى ورا الباب». وهذا الإقطاع الجديد هو المتستر في ملاك العشرين فداناً إلى المئة وهم 1,2% ويملكون 25,2% من الأرض أي أن 1 في المئة من الملاك يملكون ربع الأرض تقريباً، وهي الطبقة التي ورثت مجتمع الـ0,2% الذي كان يملك 100 فدان فأكثر أي حوالي 27% من الأرض. ومن ثم فقد اتسعت قمة الهرم من 0,2% إلى 1,2% أي إلى حوالي ستة أضعاف. ثم لجأ الإقطاع الجديد إلى تحويل الأراضي إلى بساتين من 94 ألف فدان سنة 1952 إلى 178 ألف فدان سنة 1965 وهي زيادة بنسبة 91%. وإذا كانت المساحة المزروعة ستة ملايين فدان، وكان لدينا الأجراء الزراعيون اثنا عشر مليوناً يكون نصيب كل فلاح أجير نصف فدان. وهذا هو الإصلاح الزراعي المنتظر، وإذا كان متوسط دخل الفدان بضعة آلاف سنوياً على أحسن تقدير كان نصيب الفلاح الأجير من الدخل القومي من نصيب دخل أقل موظف في السلم الوظيفي. وعلى هذا النحو أصبح كل من يملك أكثر من نصف فدان إقطاعياً يستولي على جانب من حق غيره. فصاحب الفدان يأكل خبز فلاح آخر، وصاحب الخمسة أفدنة يأكل خبز عشرة أجراء زراعيين. ومالك المئة فدان يأكل خبز مائتين! -------------- أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة