بعد الانقلاب الفاشل في تركيا، ظهرت تحليلات كثيرة حول أسباب فشل الانقلاب وآثاره وتداعياته، سواء على مستوى الداخل التركي أو على المستوى الخارجي، وعلى الرغم من أن الحكومة التركية لم تتهم دولًا معينة بأنها وراء هذا الانقلاب، بل حرص الممثل التركي الدائم لدى منظمة التعاون الإسلامي، في مؤتمر صحافي على التصريح بأن لا مؤشرات على تورط أي دولة في الانقلاب الفاشل، إلا أن أتباع «الإسلام السياسي» وأنصاره والمؤمنين به، وحزب «أنا لست منهم لكني أتعاطف معهم وأؤيدهم»، بخاصة الخليجيين منهم، وجدوها فرصة مناسبة لتصفية الحسابات، ونفث الأحقاد والكراهيات، فشنوا حملة دعائية نكراء، تتهم دولة خليجية بأنها وراء هذا الانقلاب الفاشل، تخطيطاً ودعماً وتمويلاً. وفي حين اكتفى كبيرهم، المفكر الخليجي الاستراتيجي، بالتلميح حيث أرهص به مبكراً، ليلة الانقلاب، في نفثة حاقدة، فإن الأتباع تلقفوها تصريحاً وتأكيداً، وتشفياً وشماتة. الكذب والتلفيق وتزوير الحقائق والانتهازية والمناورة والخداع، أمور مشروعة في أدبيات جماعات «الإسلام السياسي» فهي تعتبر نفسها في حرب مع الأنظمة العربية «التي لا تحكم بشرع الله تعالى»، بحسب زعمهم، ولذلك يسوغون لأنفسهم كل هذه الدعايات الكاذبة، لأن الحرب خدعة! ومن هنا نفهم، أيضاً، كيف يبيحون لأنفسهم التلون في المسلكيات التي تصل إلى حد التناقض مع الثوابت القطعية التي كانت تنادي بها هذه الجماعات منذ زمن النشأة! إن الثوابت الأيديولوجية التي قامت عليها تنظيمات «الإسلام السياسي» كافة ومنذ نشأتها التاريخية -عقب سقوط الخلافة العثمانية 1924 على يد أتاتورك الذي تبنى صيغة مغالية للعلمانية معادية للدين سواء على مستوى الدولة أو المجتمع التركي، إلى درجة تحويل مساجد إسطنبول إلى متاحف، وحظر الأذان بالعربية، وتدخل في حرية الملبس للمرأة- تقوم على الأسس الآتية: الأول: المعاداة الشديدة للعلمانية وتحذير المجتمعات الإسلامية منها، وترسيخ معاداتها في نفوس الناشئة عبر المناهج التربوية والمنابر الدينية، واتهام العلمانيين بأنهم عملاء ورسل الغرب، المنبهرون بالحضارة الغربية المادية، الإباحية، الصليبية، الساعية لغزو المجتمعات الإسلامية ثقافياً، وفرض العلمنة عليها، ومحو هويتها الإسلامية! الثاني: مناوأة الأنظمة السياسية العربية القائمة، والتحريض عليها، وتهييج الجماهير ضدها، بحجتين: أنها «لا تحكم بشرع الله تعالى»، وأنها أنظمة صنيعة وتابعة للغرب، تعيش في حمايته! وتنفذ مخططاته في «علمنة» الدولة، و«تغريب» المجتمع، و«إفساد» المرأة المسلمة، و«التنكيل» بالإسلاميين، لكونهم يشكلون خطراً على المصالح الغربية. الثالث: الكراهية الشديدة للحضارة الغربية، باعتبارها حضارة غازية تستهدف الأمة في مقوماتها الدينية، وتتربص بالمسلمين عبر مخططاتها التآمرية العدوانية المستمرة الساعية لزرع الانقسام بينهم بهدف منع نهوضهم والتحكم في مقدراتهم وثرواتهم. الرابع: تخوين كل من له علاقة بإسرائيل: دولة أو حزباً أو فرداً، فضلًا عمن يطبع معها، فذلك يعد من أكبر الكبائر. الآن إذا عرفنا أن هذه هي ثوابت الإسلام السياسي منذ عقود.. فكيف نفسر التمجيد والتبجيل الذي يحظى بهما الرئيس التركي أردوغان، لدى جماعات الإسلام السياسي وبخاصة الخليجيين، إلى درجة قبوله خليفة للمسلمين؟! أردوغان، رئيس لدولة إسلامية، تعد أكبر حليف لإسرائيل: اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، في الشرق الأوسط، وهو سياسي يؤمن بالعلمانية ويتبناها ونصح بها «إخوان» مصر في زيارته لها فثاروا عليه، ودستور تركيا دستور عريق في العلمانية، والشعب التركي لا يبتغي عن العلمانية بديلًا، وهذا أساس خروجه مؤخراً ضد الانقلاب، حماية للديمقراطية والعلمانية. وإضافة إلى كل ما سبق، تركيا أكبر حليف للغرب وأميركا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بل حلم تركيا الكبير قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي.. بمعنى أن أردوغان والشعب التركي والدولة التركية، في الحقيقة والواقع والممارسة العملية، تناقض كل الثوابت الأيديولوجية الراسخة لجماعات الإسلام السياسي، للعرب عامة، والخليجيين خاصة، فكيف يفزعون له، دينياً وسياسياً، ويفدونه بالنفس والنفيس، مع أن إسلام أردوغان غير إسلامهم، وذلك في الوقت الذي لا يتسامحون قط، مع علمانيي بني جلدتهم ومواطنيهم، بل يتهمونهم بالكفر والخيانة ويحرضون سفهاءهم عليهم؟!