هذه محاولة ضمن «التنظير المباشر للواقع» لوضع الفلاح في وجداننا القومي تعتمد على تحليل الأمثال العامية كمادة حية وضعها شعورنا التاريخي على مر العصور. فالأمثال العامية تحتوي على صورة الواقع. وهي نادراً ما تخطئ تماما. وهذه محاولة هادفة للحفر في طرف من هذا الموروث. ومع ذلك فهي مجرد محاولة للتنظير من دون أية تطبيقات فعلية. تعبر عن عواطفنا أكثر من تعبيرها عن تحليلات علمية. ومن ثم فقد تخلو من العمق وتقترب من السطحية. ولذلك يمكن وضعها على حساب الأدب الشعبي أكثر من وضعها على حساب العلوم الاجتماعية أو على أقصى تقدير يمكن اعتبارها دراسة تطبيقية للمنهج الفينومينولوجي (تحليل الظواهر الشعورية باعتبارها تجارب حية) وذلك بإرجاع الأمثال العامية إلى مضامينها الحية في الشعور الجماعي. فهي محاولة لفهم النصوص، ومن ثم فأهمية هذه المحاولة أكاديمية خالصة. وقد يُختلف في تفسير الأمثال ولكن الواقع الإحصائي هو مقياس الصدق. وعلى رغم أننا في مصر شعب عُرف بكثرة الأمثال العامية التي تعبر عن حكمته وتجاربه وقد تكون أحياناً مصدراً لقيمه ومعياراً لسلوكه، فإننا نجد أن الأمثال العامية التي تتعلق بالفلاح، وهو عصب مصر وقلبها النابض، قليلة للغاية. فمن 3188 مثلاً لا توجد إلا ثمانية فقط يذكر فيها اسم الفلاح صراحة. والباقي تقتبس من الصور الريفية من زرع وحصد وريٍّ وثروة حيوانية وطير...الخ وهي أيضاً لا تتجاوز الثمانين. وكلها تعبر عن أوضاع الظلم والغبن من ناحية، أو عن حال الفقر والمسكنة من ناحية أخرى، ثم عن ثورة مكبوتة لابد من أن تنفجر يوماً حتى يصير الفلاح صاحب أرضه. وتصبح أرضه له. وتصبح مصر كلها للغالبية العظمى من سكانها وهم الفلاحون الذين «إن عاشوا أكلوا الذبان وإن ماتوا ما يلاقوش الأكفان!». إن أهم ما يميز الريف المصري هو تجانسه عبر العصور. ويقال عادة إن الفلاح لم يتغير كثيراً عن الفلاح المصري القديم بقامته وهيكله، وجلبابه وقسمات وجهه، وعاداته وتقاليده، وبشادوفه وطنبوره، ولكن الذي دام معه أيضاً هو فقره ومرضه وأميّته، ولم تستطع مصر بتاريخها الطويل، منذ خمسة آلاف عام وبدولها المتعاقبة وبحكامها على التوالي أن يتغلبوا على هذا الثالوث المعروف. وتجمع الأمثال العامية على أن الفلاح قد حُكم عليه إلى الأبد بحاله هذا، وكأن يداً خفية ثبتته على هذا الوضع إلى أبد الآبدين، وهو ما أشير إليه بخاصة الثبات أو الاستمرار. فالفلاح له أصل لا يغيره «أكل فوله ورجع لأصوله» ومهما تغير الفلاح وتحسن حاله وحسن شكله فإنه فلاح ويبقى فلاحاً «ما يغرك تخفيفي، الأصل في ريفي». وتدل الأمثال العامية التي تشير إلى لفظ «الفلاح» صراحة إلى حقيقة واحدة تطابق واقعه الأبدي. وهي أن مشكلة مصر أنها لم تكن في تاريخها لأبنائها، وبالتالي فلم تكن مطلقاً للفلاحين الذين يكونون أكثر من نصف السكان. فالفلاح حكم عليه إلى الأبد بأن يكون تابعاً للأرض لا صاحباً لها، وكأنه قُدر عليه أن يكون عبداً لغيره لا سيداً لنفسه! لن يتغير الفلاح وسيظل هكذا إلى الأبد، بل إن التغير مستحيل «إن طلع من الخشب ماشة يطلع من الفلاح باشا». يستحيل على الفلاح أن يصبح صاحب أرض، ويستحيل على العبد أن يصير سيداً! وقد لا تجدي مع الفلاح كل محاولات الإصلاح فالحال ميؤوس منه «عمر الفلاح إن فلح»! حتى ولو نال الفلاح بعض حقوقه من مشرب أو مآكل أو ملبس أو مسكن فإنه يظل فلاحاً أي مُسترقاً، جاهلًا، مريضاً، ذليلًا، وكأنه قد طبع على ذلك «الفلاح مهما اترقى ما تروحش منه الدقة!» وكان طبيعياً أن يتحول وضع خمسة آلاف عام إلى طبع راسخ. ومهما قُدم إليه من غذاء فإنه يظل سيئ التغذية، ومهما قُدم إليه من علاج فإنه يظل مريضاً، ومهما قُدم إليه من علم ومعرفة فإنه يظل جاهلًا «وكل الفلاح سنتين تفاح تضربه علقة ينزله جلوين»، أي لا يخرج عن سجيته وما تعود عليه. ----------------- أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة