في مخيم مؤقت بُني على عجل لإيواء النازحين السوريين، يقع إلى الجنوب من مدينة طرابلس اللبنانية الشمالية، كانت الطفلة «خولة» ذات الاثني عشر ربيعاً، تجلس فوق فراش متسخ في خيمتها. وكان سقف الخيمة يتألف من رقائق بلاستيكية زرقاء لا تكفي لحمايتها من أشعة الشمس اللاهبة. وعلى الرغم من أن الأمطار لا تتساقط في مثل هذه الأيام، فإن الأرضية الأسمنتية للخيمة كانت مكسوّة بطبقة من الوحل. و«خولة» فتاة رائعة الجمال، ذات تعابير رقيقة وبشرة بنّية بلون قشر الجوز، وعينان سوداوان واسعتان. وكانت ترتدي فستانها الأسود المفضل المزيّن بشرائط بيضاء. قالت لي بصوت تشوبه نبرة الحسرة والإحباط: «عندما حاولت الانتحار، كنت أشعر كأن شيطاناً تسلل إلى رأسي. ولم أعد أتذكّر تفاصيل ما حدث. وكل ما أذكره هو تفكيري أننا لم نعد نمتلك شيئاً، وأن حياتنا لن تتحسن أبداً. وربما يخفف موتي بعض العبء عن أمي». الموت أفضل وفي أحد أيام شهر فبراير الماضي، عادت «سناء» أم خولة، إلى خيمتها لتجد ابنتها مستلقية على الأرض وقد ملأت الرغوة فمها. لقد تجرّعت سُماً لقتل الفئران عثرت عليه في المخيم. وبقيت تحت العناية المركزة لمدة 18 يوماً في مستشفى ميداني. وتقول إحدى منظمات الإغاثة غير الحكومية إن الظروف المعيشية التعيسة للاجئين السوريين في لبنان زادت من معدل محاولات الانتحار في أوساطهم. وهناك الآن أكثر من مليون لاجئ مسجل في قوائم الأمم المتحدة، بالإضافة إلى عدد أكبر من هذا بكثير من اللاجئين غير المسجلين الفارّين من الحرب الأهلية التي تدور في وطنهم المجاور. ومن المعروف أن لبنان يمنع بناء مخيمات الإيواء الدائمة. ولهذا السبب، عمد بعض اللبنانيين إلى إقامة مخيمات مؤقتة على أراضيهم ذات الملكية الخاصة. وفي بعض الأحيان، يجبر أصحاب تلك المخيمات النازحين على دفع الإيجارات الشهرية لخيامهم. ظلم تجار البشر وبسبب غياب الرقابة والمحاسبة القانونية الحكومية لملاّك تلك الأراضي الذين باتوا يُعرفون باسم «الشواويش shawishes» (جمع كلمة «شاويش» في الدارجة السورية واللبنانية، وتعني «المعلّم» بالدارجة المصرية)، فإن اللاجئين الذين يعيشون في مخيماتهم (الخاصة) غالباً ما يتعرضون لسوء المعاملة ويمكن طردهم من خيامهم في أي وقت.. وخلال شهر أبريل الماضي، تم إنقاذ 75 امرأة سورية من العبودية الجنسية في أحد مرابع ممارسة الرذيلة في لبنان. واتضح من معاينتهنّ أنهن تعرضن للتعذيب بالكهرباء وأُجبرن على ممارسة الرذيلة أكثر من 10 مرات كل يوم. ضياع المراهقين وأصبحت أعداد متزايدة من الفتيات السوريات المراهقات يُجبرَن على الزواج المبكر من أجل الحصول على الحماية المادية والجسدية من أزواجهن البالغين. ونظراً إلى هذا الحال المتردي والبائس الذي بلغه اللاجئون السوريون، لم يعد من المفاجئ أن يحاول العديد منهم الانتحار كخيار لا بديل عنه للنجاة. ووفقاً لبيانات إحصاء صادرة عن «صندوق الأمم المتحدة للسكان» عن عام 2014، فإن 41? من الشبّان السوريين في لبنان قالوا إنهم يفكرون في الانتحار، بينما قال خبراء الإغاثة العاملون في لبنان إنه من المتعذّر جمع بيانات دقيقة حول محاولات الانتحار أو عدد عمليات الانتحار التي حدثت بالفعل نظراً إلى أن الانتحار بحد ذاته يعتبر من أكبر الآثام في التعاليم الإسلامية، إلا أنهم قالوا إن محاولات الانتحار عند المراهقين السوريين أصبحت تتزايد بشكل كبير. وقالت الناشطة القانونية «هلا كرباج»، وهي طبيبة نفسية لبنانية ساعدت منظمات الإغاثة على معالجة مشاكل اللاجئين السوريين في لبنان: «أصبح الانتحار يتكرر كثيراً في أوساط اللاجئين السوريين، وبخاصة المراهقون والشبّان. وهؤلاء الشبان الصغار يتأثرون بشكل كبير بقناعتهم بأن هذا التغير الذي طرأ على حياتهم غير قابل لعكس اتجاهه. ويشعر معظمهم بأنهم باتوا عالقين وليس أمامهم أي مستقبل منظور». مساعدات تطوعية وأشارت «كرباج» إلى أن الطريقة الوحيدة لمنع اللاجئين الشبّان من بلوغ مرحلة اليأس والإحباط والتفكير في الانتحار، تكمن في الاستثمار بمستقبلهم. وقالت: «بات من الضروري أن نقنعهم بوجود هدف من مواصلتهم لحياتهم لأنهم عندما يُحرمون من الالتحاق بالمدارس ويقضون كل أوقاتهم في المخيمات، فلا بد أن يتعرضوا لاضطرابات نفسية وسلوكية ذات نتائج سلبية خطيرة. وعلينا أن ندفعهم إلى إنجاز نشاطات تعاونية جماعية وأعمال إبداعية وأن نهيئ لهم البيئة الصالحة للحياة. وهذا هو ما يعمل من أجله الآن عدد كبير من موظفي منظمة الإغاثة غير الحكومية التي أتعاون معها». وفي غرفة معتمة تابعة لمركز مخصص لتعليم أطفال اللاجئين في وادي البقاع تديره منظمة إغاثية لبنانية، طلبت عدم الكشف عن اسمها، انخرطت «سُها» ذات الأربعة عشر ربيعاً في البكاء. وكانت ترتسم على وجهها ابتسامة مصطنعة حاولت أن تخفي بها الدموع التي تذرفها عيناها، وقالت إن أباها أصبح عصبياً شديد القسوة عليها وعلى أمها بسبب هذه الظروف الصعبة. وسألتها عما إذا كانت قد حاولت الانتحار، فأجابتني بعد لحظة صمت وتردد: «ذات مرة، ضربني أبي بقسوة بالغة فدخلت غرفتي وأغلقت الباب وقطعت أحد أوردة يدي بسكين. كنت أريد أن أموت»، ولكنها أُنقذت بعد ذلك. وأشارت «سها» إلى إن الذهاب إلى المركز التعليمي التابع لمنظمة الإغاثة في المخيم، كان يمثل بالنسبة إليها الطريقة الوحيدة لتغيير هذا الواقع الذي تعيشه، وقالت: «أنا أحب دروس الموسيقى، وأشعر بالهدوء عندما أعزف على إحدى الآلات. وعندما آتي إلى هنا، أشعر بأنني لا أريد ليومي أن ينقضي. إنه المكان الذي زرع في نفسي الأمل». مدارس الأمل الجديد وليس بعيداً عن أحد مخيمات النازحين، يمكنك أن تسمع أصوات ثرثرة رهط من الأطفال تنطلق من مدرسة صغيرة تتألف من سبعة أو ثمانية صفوف على شكل خيام. وعمد التلاميذ إلى تزيين جدرانها الخارجية برسوم ملونة. وفي المكتب المركزي الذي يمثل الإدارة، التقيت «ريما»، وهي إحدى الناشطات الاجتماعيات التابعات للمنظمة غير الحكومية، التي فضلت استخدام اسمها المستعار هذا بدلاً من اسمها الحقيقي، وشرحت لي كيف يحاول هذا المركز التربوي أن يعمل باعتباره ملاذاً آمناً للأطفال. وقالت لي: «عندما أتى هؤلاء التلاميذ إلى هنا للمرة الأولى، كان أقل من 1? منهم قد قالوا بأنهم فقدوا أي أمل في الحياة. وعندما طلبت منهم أن يرسموا أشكالاً يختارونها بأنفسهم، رسموا لي صوراً لبنادق حربية وقنابل يدوية وأشياء أخرى تتعلق بالحرب. وعندما وضعت أمامهم مجموعة من الأقلام الملوّنة، كانوا يختارون منها الأسود بشكل دائم». وبات هذا المركز التعليمي يمثل حاجة ماسة لإعادة بناء الأمل وحب الحياة لدى الأطفال. ولم يقتصر دوره على التعليم النظري، بل تعداه إلى تشجيعهم على إبراز مواهبهم في الموسيقى والصناعات الحرفية. وقالت ريما: «نحن نحاول أن نزوّدهم بالأدوات الضرورية لتطوير الشعور بالذات والتعبير عن شخصياتهم. ولو كان الإنسان واقعاً في حفرة عميقة ثم رأى حتى ولو شعاعاً خافتاً من الضوء، فلا بد له أن يحاول الخروج من الحفرة لالتقاطه». إلا أن المرأة التي تدير هذه المنظمة غير الحكومية وعدة مراكز مشابهة، أشارت إلى أنه من المقرر إغلاقها كلها في نهاية الصيف الجاري بسبب وقف «اليونيسيف» للمساعدات المالية. وقالت: «قالوا لنا بأن هذه الأماكن تفتقر إلى عنصر الاستدامة. ولم يعد أمامنا إلا ثلاثة أشهر حتى نهيئ التلاميذ لتقبل الخبر غير السعيد من أننا سنتركهم ونرحل. وتقترح علينا الأمم المتحدة نموذجاً جديداً يشترط التعاون مع الحكومات في القضايا المتعلقة باللاجئين. وبهذا أصبحت القضية سياسية بحتة. وهم يريدون أن تكون الحكومة اللبنانية وحدها هي المسؤولة عن العناية بشؤون اللاجئين. ولكننا نفتقر إلى الخدمات الصحية الأساسية حتى للبنانيين، ولا تتوفر إلا أماكن قليلة في المدارس للأطفال اللبنانيين أنفسهم، فما بالك بالسوريين؟». «ضائقة» اليونيسيف! وتعاني «اليونيسيف» من نقص تمويل صناديقها الخاصة بمواجهة حاجات مجتمع النازحين. ففي شهر مايو الماضي، أعلنت عن حاجتها لمبلغ 479 مليون دولار لمساعدة اللاجئين السوريين في لبنان إلا أنها لم تجمع من ندائها هذا إلا 39? من قيمة المبلغ المطلوب. وهذا ما يزيد من أهمية تعاون المنظمة الدولية للطفولة مع المنظمات غير الحكومية من أجل تلبية حاجات الأطفال السوريين في لبنان. وكتبت الناطقة باسم «اليونيسيف» سلام عبد الرحمن في رسالة بالبريد الإلكتروني قالت فيها: «نحن نعمل مع نحو عشرة شركاء من المنظمات غير الحكومية لمساعدة الأطفال السوريين على العودة (والبقاء) في المدارس عبر نشاطات يتم تنفيذها ضمن المخيمات الرسمية التي يقيمون فيها، أي في المراكز التابعة لليونيسيف بالإضافة إلى المدارس الحكومية بالتعاون مع وزارة التربية. ويعتبر دور المنظمات غير الحكومية الجزء الحيوي من مسؤوليتنا ولا تقل أهميته عن تعزيز الأنظمة الحكومية وبحيث يتم الربط بين الدورين». لا حياة بلا كرامة وبالعودة للحديث عن أوضاع «خولة» التي لم تحظَ بفرصة الدخول إلى المدرسة ولا بخدمات العلاج النفسي، فإنها تقول إنها لا ترغب في صنع مستقبلها تحت وطأة هذه الظروف القاسية التي تعيشها. وقالت: «لقد كنا نعيش في سوريا عيشة الفقر والفاقة، ولكننا كنا نعيش على أي حال». وعندما نطقت بهذا الكلام كانت عيناها شاخصتين في الفراغ حتى لتبدوان كأنهما عينا امرأة عجوز لا عينا فتاة في الثانية عشرة من عمرها. وعندما سألتها عما إذا كانت ستفكر في الانتحار مرة أخرى، أجابت: «نحن نحتفظ بعزّتنا وكرامتنا، ولقد أتينا إلى هنا ونحن لا نمتلك شيئاً. وإذا لم تتغير الأوضاع وبقيت أحوالنا على ما هي عليه، فسوف نعمد كلنا إلى قتل أنفسنا». سولوم أندرسون: محللة سياسية أميركية مقيمة في بيروت يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»