تُظهر الدراسات والإحصاءات الحديثة أن قرابة مليار طفل، تعرضوا خلال العام الماضي لشكل من أشكال العنف البدني، أو النفسي، أو الجنسي. وخلال رحلة طفولتهم بوجه عام، يتعرض واحد من كل أربعة من الأطفال لإساءة المعاملة والعنف البدني، وتتعرض واحدة من كل خمس بنات، وواحد من كل ثلاثة عشر من الأولاد، لشكل من أشكال الاستغلال الجنسي، مما يجعل إساءة معاملة الأطفال، إحدى أهم القضايا الصحية، والاجتماعية، والأمنية، والسياسية، التي تواجه المجتمعات الحديثة على اختلاف أشكالها وأطيافها. فبخلاف أن العنف ضد الأطفال، وخصوصاً في العقد الأول من الحياة، يعتبر في حد ذاته مشكلة صحية خطيرة، يؤدي هذا العنف إلى العديد من المشاكل الصحية في المراحل اللاحقة من الحياة، ففي دراسة صدرت قبل بضعة أعوام عن منظمة الصحة العالمية، ظهر أن العنف ضد الأطفال وخصوصاً الاعتداء الجنسي، يعتبر مسؤولاً عن 6 في المئة من جميع حالات الاكتئاب بين البالغين، وعن 6 في المئة من إدمان الكحوليات والمخدرات، وعن 8 في المئة من محاولات الانتحار، وما بين 10 و27 في المئة من الاضطرابات النفسية المختلفة، بينما أظهرت دراسات أخرى، وجود علاقة قوية بين العنف البدني والاعتداء الجنسي على الأطفال، وبين العديد من السلوكيات الصحية الضارة، مثل التدخين الشره، والسمنة المفرطة، والاستهتار في ممارسة العلاقات الجنسية، وهي السلوكيات المعروف عنها زيادة الإصابة بأمراض خطيرة، مثل الأمراض السرطانية، وأمراض القلب والشرايين. ويعتبر العنف ضد الأطفال، وإساءة معاملتهم خلال سنوات عمرهم الأولى، أحد الأسباب الرئيسية خلف التزايد الملحوظ في معدلات الاكتئاب بين أفراد هذه الطائفة العمرية، فبخلاف التزايد المستمر لعدد حالات الاكتئاب بين البالغين، تشهد العديد من المجتمعات وباء من الاكتئاب، يسري سريان النار في الهشيم بين أطفالها، نتيجة أسباب مختلفة ومتنوعة، وهو ما أكده العديد من الأبحاث والدراسات، مثل الإحصائيات الرسمية الصادرة سابقاً عن الحكومة البريطانية، والتي أظهرت أن عدد الوصفات الطبية من العقاقير المخصصة لعلاج اكتئاب الأطفال، قد زاد بمقدار أربعة أضعاف خلال العقد الماضي، حيث أصبح الأطباء في إنجلترا مثلاً، يُصدرون سنوياً أكثر من 630 ألف وصفة طبية لعقاقير تستخدم لعلاج الاكتئاب لدى الأطفال، مقارنة بـ146 ألف وصفة فقط في منتصف عقد التسعينيات. ولا تقتصر تبعات العنف ضد الأطفال، وإساءة معاملتهم واستغلالهم على سنوات العمر الأولى فقط، بل كثيراً ما تمتد تأثيراتها خلال مراحل الحياة اللاحقة، لتظهر بشكل جلي خلال فترة المراهقة، التي تبدأ مع البلوغ الجنسي وتستمر حتى اكتمال العنفوان، فعلى الرغم من أن فترة المراهقة تتميز بحالة صحية بدنية وجسدية جيدة في أغلب الأحوال، فإن ما بين 10 و20 في المئة من أفراد هذه الفئة العمرية، يعانون من مشاكل تتعلق بصحتهم النفسية، حيث يعتبر الاكتئاب مثلاً هو السبب الأول للإعاقة بين المراهقين، بينما يحتل الانتحار المرتبة الثانية على قائمة أسباب الوفيات الأكثر انتشاراً بين أفراد هذه الفئة العمرية، ومن المعروف أن تدهور الصحة النفسية أو العقلية، يرتبط بشكل وثيق بالمشاكل الصحية الأخرى، وبمسيرة عملية النمو والتطور البدني، والذهني، والنفسي، والتعليمي، وأهم هذه المشاكل ربما كان إدمان المخدرات، والعنف البدني والنفسي، والفشل في تحقيق الطموحات التعليمية أو الأكاديمية، والإصابة بالأمراض الجنسية. ويفسر البعض هذه العلاقة بين العنف ضد الأطفال، والاكتئاب، وربما الانتحار لاحقاً خلال سنوات المراهقة، من منظور كون الصحة حالة من التكامل البدني، والعقلي، والاجتماعي، وليس فقط الخلو من الأمراض والإعاقات، مما يجعل الشهور والسنوات الأولى من العمر من أهم مراحل النمو والتطور التي تؤثر سلباً أو إيجاباً على الحالة الصحية العامة خلال المراحل المختلفة من رحلة الحياة. وتتأتى هذه الأهمية من التأثر الشديد لمدى النمو والتطور البيولوجي والعصبي خلال السنوات الأولى من العمر بالبيئة المحيطة بالمولود الجديد، والطفل الرضيع، حيث تساهم الخبرات الأولى في تشكيل الجوانب الصحية المختلفة، وتحديد الإنجازات التعليمية والعلمية، ومدى المشاركة الاقتصادية في المجتمع الذي ينمو ويعيش فيه الطفل لاحقاً. وبناء على هذه الحقائق ينظر الأطباء والعلماء إلى الفترة الممتدة من بداية الحمل وحتى بلوغ الطفل عامه الثامن على أنها أهم فترات الحياة على الإطلاق على صعيد النمو العقلي والجسمي للكائن البشري، وهي الفترة التي تتأثر سلباً لحد كبير إذا ما شابها العنف، وإساءة المعاملة، والاستغلال بأشكاله المختلفة. د. أكمل عبدالحكيم