في الاحتفال بعيد الباستيل عام 2015 ذهبت أنا وأسرتي إلى ضفاف نهر ساون في مدينة ليون الفرنسية لمشاهدة الألعاب النارية مع آلاف من سكان المدينة، وكانت فرنسا ما زالت تتعافى من الهجمات على مقر مجلة «تشارلي إبدو» وعلى متجر «هايبر كاشير»، وفي السنوات الماضية وقعت هجمات في مدن فرنسية مثل تولوز وتور وديجون ونانت، لكن معظمها استهدف يهوداً أو أفراداً من الشرطة أو الجيش. وظل معظم الناس في فرنسا يشعرون أنهم بمأمن من العنف المباشر. وما حدث في «نيس» يذكرنا بشكل مروع بأن الجميع في فرنسا مستهدفون، ورغم أنه ليس البلد الوحيد في المنطقة الذي عانى من الهجمات الإرهابية في السنوات القليلة الماضية، لكن فرنسا عانت أكثر من جيرانها مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، فلماذا تكون فرنسا محور عنف أكبر للمتشددين في أوروبا؟ والإجابة تكمن في ثلاثة عوامل: السياسات الداخلية والخارجية لفرنسا والتاريخ والتركيبة السكانية ونهج التعامل مع مسألتي الجنسية واندماج المهاجرين، وهذه العوامل المفردة ليست مقتصرة على فرنسا وحدها، لكن اجتماعها يجعلها نقطة محورية للعنف. بدايةً، نجد أن الإسلاميين المتشددين يعارضون السياسة الفرنسية الخارجية والمحلية، لأن فرنسا اتبعت سياسات معينة أثارت غضب الإسلاميين المتشددين. وتورطت فرنسا بشكل أكبر في الحملات العسكرية ضد «داعش» من ألمانيا وإيطاليا، واتخذت موقفاً أكثر إقداماً منذ هجمات نوفمبر 2015 في باريس. وموقفها يتعارض بشدة مع انسحاب إسبانيا من العراق بعد هجمات عام 2004 في مدريد. و«داعش» خصت الفرنسيين بأنهم من الأهداف المفضلة قبل تفجيرات نوفمبر 2015، وجاء ذكرهم في دعوة إلى قتل الأميركيين والأوروبيين والأستراليين والكنديين. لكن بريطانيا مثلاً ناشطة للغاية في التحالف المناهض لـ«داعش»، لكنها شهدت عدداً أقل بكثير من الهجمات الناجحة للمتشددين على أراضيها في السنوات القليلة الماضية، ولذا فإن السياسة الخارجية لفرنسا لا يمكن أن تفسر وحدها الأمر. ومن هنا، فإن لتاريخ فرنسا دور واحتمالات تجنيد الإسلاميين المتشددين فيها أكبر. فلم يتحقق تحرير الجزائر من الاستعمار إلا بعد ثماني سنوات من الحرب الضروس التي خلقت ضغينة وريبة لدى الطرفين، ورغم أنه وفقاً لبعض المعايير، يعتبر الفرنسيون متسامحين إلى حد كبير مع المسلمين لكن استطلاعات الرأي التي أجرتها اللجنة الاستشارية القومية لحقوق الإنسان منذ التسعينيات وهي هيئة حكومية فرنسية، أشارت إلى أن كراهية الفرنسيين لسكان شمال أفريقيا والمسلمين أكبر من كراهيتهم لليهود، وفي مقابلات أجريت بعد الهجوم على مقر تشارلي إبدو أخبرتني امرأة من أصل أفريقي شمالي أن ابنها البالغ من العمر تسع سنوات قال له صديقه في الفصل الدراسي أن والديه يذكرون المهاجرين العرب بأبشع النعوت البذيئة. وتاريخ الجزائر كمستعمرة فرنسية وقوة الاقتصاد الفرنسي في بداية السبعينيات جعل استقرار المهاجرين من شمال أفريقيا في فرنسا سهلاً وجذاباً. وفرنسا بها ثاني أكبر جالية مسلمة في أوروبا، وهي بلا شك أكبر مستقبل للمهاجرين المسلمين من مستعمراتها السابقة. منحت فرنسا للمهاجرين كامل المواطنة بأعداد أكبر عن الدول المجاورة مثل ألمانيا أو سويسرا، لكننا نجد أن بريطانيا رغم رفضها الانضمام إلى منطقة شينجن لحرية الحركة في أوروبا تمنح الجنسية للوافدين الجدد بما يشبه الطريقة التي تتبعها فرنسا، وكذلك تفعل بلجيكا، لكن فرنسا تحديداً تؤكد أن المرء إذا تعلم في مدارسها وتكلم لغتها واتبع الطريقة الفرنسية في الحياة فسوف يُعامل كفرنسي. وتفاوت نجاح هذه العملية بين غالبية المسلمين الفرنسيين البالغ عددهم نحو خمسة ملايين. وكثيرون منهم يشعرون أنهم مستبعدون ومطرودون إلى ضواحي المدن الكبيرة. وأنهم تعلموا في المدارس ويتحدثون الفرنسية لكنهم ما زالوا لا يجدون وظائف جيدة، وبعضهم يرتكب الجرائم الحقيرة وبعضهم ينتهي به الحال إلى السجن وكثيرون يبحثون عن معنى أكبر لحياتهم، وليس لهذا علاقة بالأيديولوجيات الدينية المتطرفة، بل إنهم أفراد مضطربون ومحبطون ومعرضون لأن ينخرطوا في ارتكاب أعمال العنف. إريك بليتش* *محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»