تميز إقليم الشرق الأوسط في عقود عديدة بدرجة عالية من درجات الاضطراب وعدم الاستقرار، وإذا اكتفينا بالمرحلة الراهنة وجذورها القريبة يمكننا أن نؤرخ لبداياتها الأولى بالانقسام المصري- العربي في أواخر سبعينيات القرن الماضي بسبب التسوية مع إسرائيل، ثم زاد الاضطراب بنشوب الحرب العراقية- الإيرانية في 1980 وهي الحرب التي كان لها تأثير مزدوج، فمن ناحية زادت من اضطراب المنطقة خاصة على ضوء درجة التصعيد العسكري العالية والخسائر البشرية والمادية التي نجمت عنها، غير أنها من ناحية أخرى ساعدت على إعادة الُّلحمة بين مصر والعرب بعد أن بدا أن الخطر الإيراني على وحدة العراق وسلامته الإقليمية آخذ في التفاقم. وما كادت الحرب العراقية- الإيرانية تضع أوزارها حتى وقعت كارثة غزو الكويت 1990 التي لا شك أحدثت آثاراً استراتيجية سلبية على الوطن العربي، ثم مثل غزو العراق 2003 بداية لاضطراب غير مسبوق في المنطقة نجم عنه أولاً بروز خطر تهديد السلامة الإقليمية للعراق واستقراره ناهيك عن تقديمه لقمة سائغة إلى النفوذ الإيراني بسبب السياسة الأميركية في إدارة العراق بعد الغزو، ثم جاءت الطامة الكبرى بظهور أحدث طبعات الإرهاب وهي «الإرهاب الإقليمي»، متمثلاً في تنظيم «داعش» الذي أقام للمرة الأولى في التاريخ المعاصر للحركات الإرهابية «دولة» لها إقليم اقتطعته من أرض العراق، ثم أخذت في تغيير حدود المنطقة بمد إقليمها إلى الأراضي السورية دون أن تهمل القيام بعمليات إرهابية وممارسات وحشية جعلتها حديث العالم خاصة مع ظهور أنصار جدد لها تدفقوا إليها من خارج الوطن العربي وزايدوا على الأنصار الأصليين في ممارساتهم. وعزز ما سُمي بالربيع العربي من مناخ الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة كما يظهر لنا من الأوضاع في سوريا واليمن وليبيا وغيرها. ولا شك في أن أوضاعنا العربية مسؤولة أساساً عن هذا الاضطراب، غير أنه لا يمكننا أن نغفل الدور الذي لعبته قوى إقليمية وعالمية محددة في صنعه وعلى رأسها إيران ومشروعها للهيمنة الإقليمية عن طريق أدواتها في المنطقة، والولايات المتحدة وإصرارها على أن يكون الإطار الشرق أوسطي هو الإطار الناظم للمنطقة على حساب الإطار العربي، وكذلك أفكارها الغريبة عن الشرق الأوسط الكبير والفوضى الخلاقة بالإضافة إلى الأفكار الساذجة التي تضمنتها «عقيدة أوباما». والجديد الآن أن الاضطراب قد بدأ يمتد إلى أوروبا والولايات المتحدة كما في العمليات الإرهابية في فرنسا وبلجيكا وآخرها العملية البشعة في «نيس» بفرنسا، وحتى في الولايات المتحدة فإن عمليات القنص الأخيرة لضباط شرطة انتقاماً من دور الشرطة الأميركية في قتل مواطنين سود البشرة بدم بارد ودون وجه حق يمكن اعتبارها مؤشراً على امتداد الاضطراب حتى إلى أقوى دولة في العالم. وعلى رغم أن أوباما ذكر غير ما مرة أن المجتمع الأميركي ليس منقسماً إلى الحد الذي يصوره البعض فإنه أيضاً ليس بالوحدة التي يعتقدها أوباما، وحتى عندما اتخذت قوة إقليمية مؤثرة كتركيا إجراءات تصحيحية في سياستها الخارجية كان من شأنها أن تخفف ولو قليلاً من الاضطراب الحاصل في المنطقة بالإعلان عن النية في أن تكون هناك علاقات جيدة مع سوريا والعراق، بل ومصر فضلاً عن تحسين علاقاتها بروسيا بعد الأزمة الطاحنة التي ألمت بها نتيجة إسقاط تركيا طائرة حربية روسية -حتى عندما حدث هذا كله وتولد الأمل في إمكانية أن تفضي هذه النوايا التركية من الاحتقان وشدة الصراع في المنطقة وقعت محاولة الانقلاب التي أضافت الجديد دون شك إلى اضطراب الأوضاع في تركيا ناهيك عن حرب أردوغان مع أكراد تركيا. هل آن الأوان وقد أصبح واضحاً أن عوامل الاضطراب قد باتت عاتية وقادرة على أن تعصف بأمن وسلام عديد من الشعوب، ليس فقط في الوطن العربي وإنما على امتداد أجزاء واسعة من العالم، لأن نفكر في العوامل الحقيقية التي تقف وراء هذا الاضطراب وتفاقمه ونعمل على التوصل إلى سبل أكثر نجاعة لإعادة الاستقرار للإقليم والعالم باجتثاث فكر الإرهاب من جذوره والعمل على توفير فرص الحياة الكريمة التي يشكل غيابها منبعاً أكيداً للإرهاب؟