عند كتابة هذه السطور لا تزال علاقة مجزرة نيس الوحشية بتنظيم «داعش» غير معروفة بدقة رغم تبنى التنظيم لهذه العملية، فكل المعلومات التي قدمتها الحكومة الفرنسية عن المسؤول عن هذه العملية الفظيعة تدل على أنه لم يكن مراقباً من أجهزة مكافحة الإرهاب ولم تكن له ميول دينية محددة. ومع ذلك يمكن القول إن الحادثة تندرج إجمالاً في موجة العنف الراديكالي المتوحش التي عرفتها فرنسا وغيرها من البلدان الغربية والعديد من البلدان العربية والإسلامية، كما أن مسار الانتحاري الذي دهس بشاحنته عشرات المارين في شوارع «نيس» لا يختلف عن مسار من سبقه من الانتحاريين القتلة الذين هم في الغالب من أصحاب السوابق الإجرامية ومن محدودي الثقافة الدينية والجزء الأكبر منهم، إما من الجيل الرابع من أبناء المهاجرين وإما من حديثي اعتناق الإسلام من الأوروبيين الأصليين. لتفسير هذه الظاهرة المرعبة، تتأرجح المقاربات المنهجية بين ثلاثة توجهات: يذهب أولها إلى المنظور الاجتماعي بالبحث عن الخلفيات الاقتصادية المجتمعية للعنف الراديكالي من حيث هو نمط من رد الفعل العدمي تجاه مظاهر التهميش والقمع والإقصاء، في حين يذهب ثانيهما إلى المنظور الثقافي بضبط مرجعيات الخطاب ونمط الفكر من خلال الربط بين عنف الجماعات المتشددة وأنماط السلفيات الجديدة التي تتبنى موقفاً عدوانياً من الدولة والمجتمع الحداثي والآخر المخالف في الدين والمذهب، بينما يسلك ثالثهما نمط التحليل الجيوسياسي بإبراز السياق الاستراتيجي للإرهاب الشرق أوسطي في منطقة انهارت فيها التوازنات الهشة التي قامت عليها خارطتها الإقليمية وتركيبتها الأهلية الداخلية. المقام هنا لا يتسع لتصنيف عشرات الكتب والدراسات التي نُشرت في السنوات الأخيرة باللغات العالمية الأساسية حول هذه الظاهرة المتفاقمة، بيد أنها لا تخرج إجمالاً عن هذه المسالك الثلاثة التي أصبحت في وضع تصادم حاد، بما حدا بإحدى الصحف الفرنسية إلى الحديث عن «حروب التطرّف بين الباحثين» في مجال خصصت له إمكانات تمويلية ضخمة لرصده وفهمه وتحليله. ما نراه هو أن المقاربات الثلاث لها مشروعيتها، ولا يمكن الاكتفاء بأي منها وحدها، والتحدي الحقيقي يكمن في تقديم رؤية تركيبية متناسقة ومنسجمة تستفيد من الشحنة التأويلية الخاصة بكل منظور منهجي، وهو الجهد الذي لا يزال بعيد المنال. في هذا السياق، نكتفي اليوم بالكشف عن مفاهيم ثلاثة نعتبرها من أدوات التحليل الملائمة لفهم ظاهرة التطرّف الانتحاري في أبعادها الشاملة المترابطة، وهي:«تديين العنف العدمي» و«خصخصة الانتماء الديني» و«التنشيط السياسي للمتخيل الديني». وكما هو جليّ يبدو العامل الديني هو الرباط المشترك بين هذه الظواهر الثلاث المتمايزة في الخلفيات، بيد أن الدين في الحالات الثلاث ليس هو التقليد الإسلامي في مدونته الروحية والثقافية وتراثه المعرفي وتركيبته المجتمعية، بل هو دين طوبائي خارج عن الضوابط المؤسسية في خطابه وممارساته، كما يبدو من الاعتبارات التالية: - لا يتعلق الأمر بتحول داخل الثقافة الدينية نفسها، كما نقرأ لدى بعض الباحثين الأوروبيين الذين يَرَوْن في السلفية «التيمية» أو «الوهابية» مرجعية لهذه الحركات الراديكالية، في حين أن النظر يجب أن يركز على تحولات ظاهرة العنف الراديكالي التي انتقلت من سردية العنف الثوري «اليساري» في السبعينيات (الألوية الحمراء، الخمير الحمر..) إلى سردية الإسلام الجهادي دون أن يتغير المضمون الحقيقي للحالة الراديكالية. لقد عبر «أوليفييه روا» عن هذه الحقيقة بقوله إنما حدث هو «أسلمة الراديكالية» وليس نشوء إسلام راديكالي جديد، معتبراً أن العنف الانتحاري الإسلامي لا يمكن فهمه إلا بربطه بظواهر حداثية راهنة من قبيل الإخراج المسرحي للعنف المتوحش والطابع النخبوي للمجموعات العنيفة التي توفر المتع الجسدية والمادية وفق قواعد مقدسة تضعها المجموعة المغلقة، ومنزلة المرأة في الحشد والتعبئة.. وهي ظواهر اجتماعية توجد خارج «الإرهاب الإسلامي»، تقوم على قاعدة «الحرية المطلقة من خلال معايير مطلقة» (لا يهم إن سُميت شريعة إسلامية أو سُميت تسمية أخرى). - ما نعنيه بخصخصة الانتماء الديني هو أن «الراديكالية الإسلامية» تعبر عن أزمة عميقة تطال التقليد الإسلامي، وتعبر عن تحول جديد في نمط التدين باعتبارها مظهراً لحالة من العلمنة الاجتماعية القائمة بما هي تركيب حر للوعي الديني وصياغة فردية للهوية الدينية خارج القوالب الثقافية والاجتماعية للإسلام عقيدةً وتراثاً وتركةً قيمية. فحتى لو رجعت المجموعات الراديكالية في خطابها الفقير إلى بعض أوجه التراث الإسلامي (كابن تيمية وابن عبد الوهاب) فإن هذا التوظيف لا يخرج عن مجرد التموقع المرجعي داخل الشرعية الإسلامية، إذ المنطلق هو القطيعة مع التراث الإسلامي وفق مقاربة تدّعي العلاقة التأويلية المباشرة بالنص دون وسائط معرفية أو مؤسسية. - ما نعنيه بالتنشيط السياسي للمتخيّل الديني هو فهم أنماط الحكامة الجديدة التي بدأت مع نموذج الإمارة «الطالبانية» الذي صُدّر لمناطق عديدة في شرق وغرب العالم الإسلامي انتهاء بدولة الخلافة «الداعشية». ما يجمع بين هذه النماذج (من كابول وحضرموت والموصل إلى الصومال والساحل الأفريقي) هو بروزها في ساحات تفككت فيها الدولة المركزية وظهرت فيها مطالب إثنية وقبلية تحتاج إلى نمط من الشرعية الرمزية للتشكل في بناءات سياسية ثابتة، وجدت في طوبائية الخلافة إطاراً للانتظام والتكتل في غياب مشروع اندماجي وطني جامع. لا يتسع المقام لتفصيل هده المفاهيم التي نعتبرها المدخل لفهم الراديكالية الإسلامية العنيفة التي لا بد من الوصول إليها تأويلاً لمحاربتها بالطرق الناجعة الفعّالة. *أكاديمي موريتاني