يوم الأربعاء الماضي صدر بيان عن الحكومة البريطانية بتعيين عمدة لندن السابق «الكسندر دي بوريس جونسون» وزيراً للخارجية في التشكيل الوزاري الجديد الذي تترأسه وزيرة الداخلية السابقة «تريزا ماي». فحوى البيان جاءت صدمة لمن توقعوا منذ أسابيع أن يحل «جونسون» محل «كاميرون» رئيساً للوزراء، لكن لم تسعفه التحالفات السياسية داخل الحزب، لتغتنم «تريزا ماي» الفرصة وتحظى بالمنصب وبرئاسة حزب «المحافظين». البيان أيضاً أدهش كثيرين، فجونسون لم يسبق له أن شغل منصباً، يجعله مؤهلاً لترأس الدبلوماسية البريطانية، خاصة في وقت تتفاعل فيه أزمات خارجية تقع في دائرة اهتمام السياسة البريطانية وبدرجات متفاوتة من الأهمية. الانتقادات توالت بعد صدور البيان، فزعيم حزب «الديمقراطيين الأحرار» «تيم فارون» انتقد تعيين «جونسون» في حقيبة «الخارجية» واصفاً إياه بأنه «بنى سيرته الذاتية على إطلاق النكات».. وعلى الصعيد الأوروبي ربما يلخص رئيس الوزراء السويدي السابق «كارل بيلدت» موقف كثيرين في أوروبا تجاه تعيين «جونسون» وزيراً للخارجية، وذلك ضمن تغريدة على «تويتر» يقول فيها: «إنه يأمل أن يكون تعيينه في هذا المنصب مجرد مزحة». ولهذا الانتقادات ما يبررها، لأن عمدة لندن السابق كرّس جهده للترويج لخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، ما يجعله أحد المستفيدين من نتيجة استفتاء 23 يونيو الماضي التي أكدت «طلاق» لندن من بروكسل. فالرجل لجأ إلى تشبيه الاتحاد الأوروبي بهتلر قائلاً إن (أوروبا الموحدة مشروع زعيم النازية أدولف هتلر). «جونسون» من مواليد 19 يونيو بمدينة نيويورك الأميركية عام 1964، وجذوره العائلية تعود إلى أصول تركية، فهو حفيد «علي كمال» الذي كان وزيراً للداخلية في حكومة الصدر الأعظم للدولة العثمانية (ما يوازي رئيس الوزراء الآن) محمد فريد باشا، وقُتل جده على يد أنصار كمال أتاتورك عام 1920. انتقل «جونسون» إلى بريطانيا مع والده وهو طفل صغير، ودرس الآداب في جامعة أوكسفورد، لكن من الواضح أن الصحافة هي التي أكسبته مكانة اجتماعية ومنحته شهرة، حيث بدأ حياته المهنية صحفياً في «التايمز» لكنه أقيل منها بسبب عدم دقته، وبعدها عمل في «الديلي تلجراف» وأصبح مراسلاً للصحيفة في بروكسل مقر الاتحاد الأوروبي، وشغل منصب نائب مدير الصحيفة، وأصبح مديراً ل«سبيكتيتور» - أو الشاهد- وهي صحيفة سياسية أسبوعية خلال الفترة من 1991 إلى 2005. لكن جونسون أثار استياء بعض مسلمي بلاده، خاصة بعدما كتب مقالاً في صحيفته الأسبوعية انتقد فيه المسلمين، وذلك بعد بضعة أيام من الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها العاصمة البريطانية في 7 يوليو 2005. ويبدو أن عمله في الصحافة شجعه على تأليف الكتب، منها كتاب عن حياة رئيس الوزراء البريطاني السابق، ونستون تشرشل، وكتاب عن تاريخ روما، وآخر عن مدينة لندن. لكن سرعان ما اصطدم عمله بالصحافة مع عضويته في البرلمان، حيث فاز في انتخابات عام 2001 بمقعد في مجلس العموم، وأصبح واحداً من أبرز الساسة في حزب «المحافظين». وشغل منصب المتحدث باسم الحزب، لكنه أقيل منه عام 2004 بسبب ما أثير آنذاك حول علاقاته النسائية، لكن هذا لم يقف عقبة أمام تبوأه منصب وزير دولة مكلف بالفنون عام 2004، واضطر إلى الاستقالة بسبب علاقة غرامية، ثم عاد إلى الحكومة عام 2005، في منصب وزير دولة مكلف بالتربية. المحطة الأبرز في حياته السياسية كانت عند توليه منصب عمدة لندن (2008-2016)، حيث نجح خلال هذه الفترة في تنظيم أولمبياد لندن 2012، وتمكن من تشجيع سكان العاصمة على استخدام الدراجات الهوائية في التنقل، حيث اشتُهر بركوبه الدراجة الهوائية، وتشير التقديرات إلى أنه شجّع 90 ألفا من سكان لندن على استخدام هذه الوسيلة الصديقة للبيئة في تنقلاتهم، كما أصدر قراراً بمنع تناول المشروبات الكحولية في المواصلات العامة. ولاشك أن قيادة «جونسون» لحملة «الخروج» من الاتحاد الأوروبي، وما تخللها من تصريحات وتعليقات، كشفت بعضاً من تهوره، أو بالأحرى «ذلات لسانه»، وجعلته يشبه إلى حد كبير «دونالد ترامب» المرشح «الجمهوري» في انتخابات الرئاسة الأميركية شكلاً وموضوعاً، فتسريحة «جونسون» الغريبة وشعره الأشقر، تجعل ملامحه أقرب لملامح «ترامب»، وتأتي تصريحاته الغريبة لتحاكي تهور المرشح «الجمهوري»، وضمن هذا الإطار قال «جونسون»: إن أصول أوباما الكينية، جعلته يكره تراث بريطانيا وتاريخها، وهذا التعليق جاء بعد تصريحات أطلقها الرئيس الأميركي يناشد فيها البريطانيين بالبقاء في الاتحاد الأوروبي. «جونسون» وصف هيلاري كلينتون المرشحة «الديمقراطية» في انتخابات الرئاسة الأميركية بأنها «ممرضة سادية تعمل في مصحة للأمراض العقلية». ولم تقتصر تصريحات الغريبة على محراب السياسة فقط، بل صرح في أغسطس 2008 أثناء حضوره لأولمبياد بكين بأن لعبة «تنس الطاولة» تم اختراعها في القرن التاسع عشر على موائد الطعام في إنجلترا. ولدى جونسون موقف مؤيد لإسرائيل، ومؤمن بحقها في الوجود، ويعتبر أن الدعوة لمقاطعتها «فكرة غبية»، ويرى أنه «ينبغي أن يكون الشخص مجنوناً كي يشارك في مقاطعة إسرائيل»! ما يثير الاستغراب هو تصريح لرئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي تلمّح فيه لمحدودية قدرات «جونسون» التفاوضية، حيث قالت «لم يستطع الحصول من الألمان إلا على مدافع مياه منعتَه من استخدامها ضد المتظاهرين». فكيف يستطيع «جونسون» بشخصيته التي تميل إلى السخرية والتصريحات المنفلتة تسيير دفة الدبلوماسية البريطانية ذات الطابع العالمي في هذه المرحلة المتخمة بالتحديات الأوروبية والدولية؟ وهل قرار اختيار الرجل لشغل هذا المنصب يتعلق فقط بمهمة «الخروج» من أوروبا الموحدة التي سوَّقها للبريطانيين، دون اعتبار لملفات خارجية أكبر داخل أوروبا وخارجها، تبدأ بالأزمة الأوكرانية والتوتر الروسي- الأوروبي، والملف السوري وأزمة المهاجرين والوضع الراهن في ليبيا والحرب على «داعش» وسلام الشرق الأوسط؟ طه حسيب