يعتقد الأميركيون أن زعماءهم يجب ألا يكذبوا عليهم أبداً. ولكن دونالد ترامب يتهم هيلاري كلينتون بالكذب، وهذه التهمة أصبحت مهمة في الحملة الحالية من أجل الرئاسة الأميركية. ويخبرنا التاريخ أنه إذا كان عدد كاف من الجمهور الأميركي يعتقد أنها تكذب، فإن ذلك يمكن أن يساعده على هزمها في انتخابات نوفمبر المقبل. والتاريخ الأميركي حافل بأمثلة لزعماء سياسيين كذبوا، وما ترتب عن ذلك من عواقب وخيمة. ففي عهد إدارة نيكسون، قام بعض أنصار الرئيس بعملية سطو استهدفت مقرات خصومه السياسيين، وعلم نيكسون بالخبر، ولكنه نفى أن يكون على علم بما جرى. وقد يبدو ذلك جنحة صغيرة، ولكن كذبه كان أحد الأسباب الرئيسة لاستقالته من الرئاسة. وخلال رئاسة بيل كلينتون، اتُّهم الرئيس بالكذب بشأن علاقة شخصية مع متدربة في مكتبه، ووُجهت إليه تهم كانت تهدد بعزله. وكان من الممكن أن يرغَم على الاستقالة. ووقتئذ أيضاً بدا الموضوع بسيطاً جداً، ولكن حقيقة أنه كذب بشأن العلاقة سببت له مشاكل كبيرة. ولكن، ما الذي فعلته هيلاري كلينتون وسمح لدونالد ترامب باتهامها بالكذب، وهي تهمة يصدقها كثير من الأميركيين؟ الاتهام الرئيس ضد هيلاري كلينتون يتعلق باستعمالها البريد الإلكتروني خلال الفترة التي كانت فيها وزيرة للخارجية. فبعد مغادرتها ذلك المنصب، تبين أنها كانت ترسل وتستقبل رسائل على بريدها الإلكتروني الشخصي تشمل مراسلات حكومية أميركية رسمية. وقد اعترفت بأن استعمالها لحساب خاص لإرسال واستقبال رسائل حكومية رسمية كان عملاً خاطئاً، وإنْ كان من سبقوها في ذاك المنصب كانوا يفعلون الشيء نفسه. ولكن تلك الممارسة كانت فكرة سيئة لأنها قد تنطوي على خطر أن تشمل عملية الإرسال، عن طريق الخطأ، رسالةً سرية، ما يسمح لأشخاص غير مرخصين بالوصول إلى مراسلات غير مسموح لهم بالاطلاع عليها. ولكن الانتقاد الرئيس لهيلاري بخصوص هذا الموضوع هو أنها ربما لم تقل الحقيقة بشأن محتوى تلك الرسائل، وذلك لأن كلينتون كانت تشدد دائماً على أن لا شيء مما استقبلته أو بعثته على حسابها الخاص للبريد الإلكتروني كان سرياً، وبالتالي لم يكن ثمة أي خطر لوصول غير مرخص إلى المراسلات. وقد قامت بتسليم أكثر من 30 ألف رسالة بريد إلكتروني كانت محفوظة في خادمها الخاص، وقالت إنها جميعها غير سرية، وبالتالي فإنه لم يكن ثمة خطر في ما قامت به. ولكن أعضاء في الحزب «الجمهوري» المعارض اشتبهوا في أنها تكذب بشأن هذا الأمر وطالبوا بتحقيق في رسائل البريد الإلكتروني التي بعثتها حين كانت وزيرة للخارجية، ففتحت وزارة العدل الأميركية تحقيقاً في الموضوع. وشرعت العام الماضي في فحص كل رسائلها الإلكترونية الـ30 ألفاً، واستغرق ذلك الكثير من الوقت، كما قامت باستجواب كلينتون وآخرين الذين كانوا على علم بموضوع البريد الإلكتروني، والأسبوع الماضي فقط انتهى التحقيق. وقد خلصت وزارة العدل إلى أنه إذا كانت هيلاري قد تصرفت على نحو متهور حين استعملت بريدها الإلكتروني للعمل الحكومي، فإنها لم تفعل أي شيء غير قانوني، بمعنى أنها لم تتعمد تعريض معلومات سرية للخطر. غير أن وزارة العدل أشارت في الوقت نفسه إلى أن بضع عشرات من الرسائل التي قامت بفحصها كانت في الحقيقة سرية. فردّت هيلاري على ذلك بالقول إن تلك الرسائل إنما اعتُبرت سرية فقط بعد أن اطلعت عليها. كيف ذلك؟ الواقع أنه وفق نظام التصنيف الذي تعتمده الحكومة الأميركية، فإن الشخص الذي يكتب الرسالة، هو الذي يختار لها تصنيفاً معيناً، ولكن بعد إرسالها، بوسع أي شخص آخر اطلع عليها ترقيتها إلى وضع السرية. وتقول كلينتون إن ذلك هو ما حدث للرسائل التي تُعتبر الآن سرية، ذلك أنه عندما اطلعت عليها، كانت غير سرية، وبالتالي فإنها لم تكن مضطرة لحمايتها. بيد أن مشكلة كلينتون هي أنه نظراً إلى أن معظم الأميركيين ليسوا مطلعين على الطريقة التي يستغل بها النظام، فإن اتهام خصومها لها بإرسال معلومات سرية والكذب بشأنها سيتم تصديقه. والأرجح أن هذا الاتهام سيستمر طيلة الحملة الرئاسية. بيد أن اتهام شخص بالكذب أمر من الصعب إثباته. ففي محكمة أميركية، يطلب القاضي من الشاهد القسم بـ«قول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة»، ويستطيع أن يأمر بسجن الشاهد إن هو حنث بذاك القسم. ولكن قول الحقيقة يمكن أن يكون مختلفاً بالنسبة إلى أشخاص آخرين. فعندما كنتُ دبلوماسياً أميركياً، كان يُقال لي دائماً أن أقول الحقيقة، ولكن ليس ضرورياً قول كل الحقيقة لأنني تعهدت بعدم إفشاء أي أسرار رسمية، وبالتالي كان ذلك مختلفاً عن الإدلاء بشهادة في قاعة المحكمة. والمرشحون لمنصب رسمي كثيراً ما يعتمدون معياراً آخر. فهم كثيراً ما يقولون أشياء مضللة، أو حتى غير صحيحة، وقد لا يعاقَبون على ذلك. وتتولى وسائل الإعلام الأميركية التأكد من صحة الحقائق ومراقبة ما يقوله السياسيون، وقد وجدتْ أن أكثر من 60 في المئة مما يقوله «دونالد ترامب» غير صحيح أو مضلل. ولكننا ما زلنا لا نعرف حتى الآن ما إن كان كل ذلك الكذب سيحول دون انتخابه. وعلينا الانتظار حتى نوفمبر المقبل لمعرفة الجواب. *دبلوماسي أميركي سابق متخصص في شؤون الشرق الأوسط