في اليوم الذي وصل فيه «هنري كابوت لودج الابن» إلى بون ليكون سفير الولايات المتحدة في ألمانيا الغربية ألقى إلينا بمفاجأة. فحينها أعلن «لودج» أنه يعتقد أن لكل شخص طريقة خاصة في العمل وطريقته تتمثل في أنه في نهاية يوم العمل يجب أن تبقى كل الأوراق على مكتبه ومن بينها الوثائق السرية دون توزيع حتى يعود في الصباح. وفي ذلك الوقت كنت عميلًا خاصاً تابعاً لوزارة الخارجية وقد أرسلت في تكليف إلى بون ضمن فريق مؤلف من ثلاثة من ضباط الأمن الإقليمي الذين يقدمون الأمن الشخصي والمادي للسفارة وكل القنصليات الأميركية في ألمانيا الغربية، والبعثة الدبلوماسية الأميركية في برلين الغربية. وكانت لدينا أسباب وجيهة لنشعر بالذهول. فقد كانت ألمانيا الغربية بؤرة للحرب الباردة. ولم يتفوق عليها في عدد الجواسيس الأجانب الذين يخترقونها إلا عدد قليل من الدول الأوروبية. والبعثات الدبلوماسية الأميركية أهداف محورية للتجسس بطبيعة الحال. ولكن «لودج» مضى في اتباع نهجه في العمل. ولم تصدر أوامر من القيادات العليا لاتباع قواعد أمنية معينة. بل إن ما جاءنا من أعلى كان مفاده بصفة عامة: تصرفوا بشكل ملائم، ولا تتركوا المعلومات السرية تقع في الأيدي الخطأ. ولم تقع معلومات في الأيدي الخطأ. وعمليات الأمن تم تعزيزها لاستيعاب عادات «لودج» في العمل من تكليفات عسيرة لحرس الأمن من قوات مشاة البحرية وأجهزة أمن مزيفة، وسهر بعض الليالي للتأكد من عدم كشف المعلومات التي تعتبر حساسة من وجهة نظر الأمن القومي. وقد شعرنا بالارتياح حين شهدنا «لودج» يعود إلى أميركا في عام 1969. وهذه القصة تقودنا إلى هيلاري كلينتون وتحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف. بي. أي» في استخدامها لبريدها الشخصي حين كانت وزيرة للخارجية. وباستخدام كلينتون خوادم خاصة غير سرية لبريدها الإلكتروني في نقل وتخزين معلومات حكومية شديدة الحساسية -كما أثبت ذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي- وضعت كلينتون، مثل «لودج»، المصالح الشخصية فوق الالتزام بحماية المعلومات السرية بشكل ملائم. ولكن بخلاف قضية «لودج» لم يحاول أحد أن يحمي كلينتون من نفسها، ومن ثم أن يحمي الأمن القومي. بل ساعد كلينتون آخرون فيما كانت تفعله. وقد أشار تقرير صادر في مايو عن المفتش العام لوزارة الخارجية بشأن إدارة سجلات البريد الإلكتروني والأمن الرقمي أثناء فترة وزارة كلينتون إلى أن «موظفين اثنين (في سكرتارية كلينتون التنفيذية) ذكروا... أنهما في وقت متأخر من عام 2010 تحدث كل واحد منهما في اجتماعات منفصلة مع (مدير السكرتارية التنفيذية) عن قلقه بشأن استخدام الوزيرة كلينتون لحساب بريدها الإلكتروني الشخصي... ووفقاً لأحد الموظفين، فقد صرح المدير بأن النظام الشخصي للوزيرة تم فحصه والموافقة عليه من الفريق القانوني للوزارة، وأن الموضوع لن يُناقش ثانية». وذكر التقرير أن مكتب المفتش العام «لم يجد أدلة على أن موظفين في مكتب المستشار القانوني فحصوا أو وافقوا على النظام الشخصي للوزيرة كلينتون». وذكر مكتب المفتش العام أن الموظف الآخر الذي أثار المخاوف أكد أن المدير أشار إلى أن مهمة السكرتارية التنفيذية تتمثل «في دعم الوزيرة، وقد طلبت من الموظفين بألا يتحدثوا عن نظام البريد الإلكتروني الشخصي للوزيرة ثانية». وتوصل مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى أن «فاعلين معادين»، أي أطراف أجنبية، تمكنوا من الدخول إلى حسابات البريد الإلكتروني الشخصي لأشخاص تتواصل معهم كلينتون كثيراً عبر حسابها الشخصي، وأنها استخدمت بريدها الشخصي «في أرض خصوم متقدمين»، وهو ما يشير عادة إلى روسيا والصين. وكذلك أشار روبرت جيتس، وزير الدفاع السابق ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إلى أنه نظراً؛ لأن البنتاجون يعلم أنه يتعرض لمحاولات القرصنة، بنحو 100 ألف مرة في اليوم، فإن الاحتمالات مرتفعة للغاية بأن الروس والصينيين والإيرانيين كشفوا خادم كلينتون الشخصي. والآن بعد أن قررت وزارة العدل طي صفحة كلينتون، أعلنت وزارة الخارجية أنها ستفتح مراجعة داخلية للتعامل مع المعلومات السرية واستخدام بريدها الإلكتروني. وسيتعرض بعض الموظفين للتأديب. ولكن كلينتون ودائرتها الداخلية لا يواجهون نتائج خطيرة فهم ليسوا موظفين اتحاديين بعد إلى حين تنصيب الرئيس الجديد في عام 2017. ولا يمكن أن يتولى دونالد ترامب المنصب. فأنا ما زلت مصراً على رأيي فيه وهو أنه «بلطجي شرير وسوقي ومتضخم الذات وغير مخلص يلجأ إلى استخدام كباش فداء دينية وعرقية خاطئة، ويطلق إهانات ليغطي على عدم شعوره بالأمان». ولكن هذا لا يعني أن عدم مراعاة كلينتون لإجراءات الأمن الملائمة مؤسف للغاية. لقد ضربت مثلًا مروعاً للعاملين في الأمن القومي الذين تسعى لقيادتهم. أيمكن أن تتعلم من هذا؟ إننا نعيش بالأمل ولا يمكننا غير ذلك. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»