بعد اختيار الخروج من الاتحاد الأوروبي، أصبحت المملكة المتحدة فجأة وبشكل غير متوقع أوروبية، وبين عشية وضحاها اختفى الانقسام السياسي البريطاني القديم بين حزب «العمال» المعتدل في يساريته والصديق لأصحاب الأعمال وبين حزب «المحافظين» من «يمين الوسط» الليبرالي في الاقتصاد. وانتهت المجادلات القديمة بشأن أموال الضرائب والإنفاق التي يريد العمال زيادتها، بينما يريد «المحافظون» خفضها وحجم الحكومة، يريد «المحافظون» تقليصه، بينما يريد «العمال» توسيعه. لقد انقضت الأيديولوجيات القديمة، بل ورحل الرجال الكبار، لكن البريطانيين منقسمون على الأسس نفسها مثل الآخرين في أوروبا. وفي وقت مبكر من العام الماضي أشرت إلى أن أهم انقسام سياسي في أوروبا، ليس بين «اليسار القديم» و«اليمين القديم»، لكن بين ما دعوته سياسة التكامل في جانب وسياسة العزلة أو الحمائية أو القومية في الجانب الآخر. وهذا يصح على اليونان وبولندا وفرنسا وهولندا. وهذا يصح حالياً على بريطانيا أيضاً لكن الانقسام غير متسق وغير مستوٍ وغير ناضج، وكشف استفتاء الشهر الماضي عن وجود كتلتين متماسكتين على الأقل من الناخبين السياسيين البريطانيين ليس لهما حالياً تمثيل في البرلمان. الكتلة الأولى يمثلها تقريباً «حزب استقلال المملكة المتحدة»، وهو إنجليزي الهوى، وهو تيار يمكن أن يوُصف في أي بلد آخر بأنه من «اليمين المتطرف»، ويتضمن ناخبين سابقين من حزبي «العمال» و«المحافظين». وحظي حزب «استقلال المملكة المتحدة» بنحو 3.8 مليون ناخب في الانتخابات الأخيرة، لكن بفضل نظام للتصويت يحابي الأحزاب الكبيرة لا يوجد إلا عضو برلماني واحد يمثل الحزب. ولم يطلب أحد قط أن تقدم هذه المجموعة سياسات فعلية، أو تتحمل المسؤولية لتنفيذها، لكن من الجائز أن نفترض أنها تريد تجارة أقل وحواجز حمائية أعلى وحدوداً أقوى، والمزيد من التخطيط الحكومي وإنجلترا أكثر إنجليزية وابتعاداً بمسافة ما عن الحلفاء من كل نوع. وهناك من يعارض بشدة هذه الأفكار، وهؤلاء يمثلون ثاني أكبر كتلة سياسية، وهم المؤيدون لأوروبا ودعاة التكامل معها، وهم يؤيدون التجارة والتحالفات الأجنبية، وهم يريدون البقاء على وحدة إنجلترا واسكتلندا وتعريف واسع لما هو «بريطاني». وهذه الكتلة تفتقر إلى التمثيل السياسي أيضاً. ويبدو كما لو أن هؤلاء الوسطيين -وهم يمثلون نسبة 48 في المئة من البلاد، الذين صوتوا في صالح بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي- ليس لديهم صوت سياسي. ولا يمثل زعيم أي من الأحزاب السياسية الكبيرة هذه المجموعة. والحراك داخل حزب «المحافظين» يدفع زعماءه نحو التشدد، فالمتنافسون بالفعل على الزعامة يجادلون بشأن من سيسرع أكثر بإيقاع الخروج من أوروبا. والشقاق بين المتنافسين شديد، ومن الصعب تخيل كيف يمكنهم مخاطبة الوسط من مؤيدي التكامل مع أوروبا. وفي الوقت الحالي لا يمكن التنبؤ هل سيكون الزعيم التالي من الحمائيين أو من دعاة التجارة في نطاق العولمة؟ وفي الوقت ذاته يدور حزب «العمال» في دوامة مدمرة، فزعيم حزب «العمال» جيرمي كوربين ينحدر من اليسار الماركسي المتطرف المعادي لأميركا والرأسمالية، وأصبح قائداً للحزب بعد أن انضم آلاف الأشخاص للحزب ليصوتوا لصالحه تحديداً. ومنذ توليه مسؤولية أحد أكبر الأحزاب السياسية البريطانية الجماهيرية العريقة يتصرف كما لو أنه يدير خلية ثورية سرية، فهو لا يتحدث إلى بعض نوابه، ونادراً ما شارك في الدعاية أثناء الاستفتاء، بل رفض حتى التصريح إذا كان صوت لمصلحة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. من هنا ينشأ الإحساس الغريب بافتقاد لندن للهدى السياسي، ومن ثم جاء وابل المكالمات الهاتفية وتيار رسائل البريد الإلكتروني والاجتماعات للتخطيط للاستجابات وظهرت المناقشات عن إنشاء أحزاب وتحالفات جديدة واحتمال إحياء حزب «الديموقراطيين الأحرار»، وهو حزب سياسي صغير من «الوسط» عصفت به الانتخابات الأخيرة، ومن ثم حدث الخوف من احتمال حدوث ما هو أسوأ. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»