لا يحضر شأن العراق إلا وذُكر العنف والدَّم. فالنَّوازل لم تكف يدها. نعم، نضب الكلام عن الصَّواعق الدَّموية، منها ما زاد على الألف ضحية، والمتواضع عُدّ بالعشرات، حتى صارت أيام الأسبوع كلها نواحس، ومازال الوضع أقرب إلى السَّائب، بتغطية الأكاذيب والشّكوك على الحقائق، فـ«مِن مضحكات الدهر»(قصيدة للرصافي): «وإن أبصرت عيناك يوماً حقيقةً/ تُخالف ما قد قلته فتُشككُ». هل هذا قَدر العراق؟ أن يُختصر تاريخه بدورات العنف، بينما للمرائين المنتفعين باسم الدِّين «بيوتٌ على أبوابها البؤسُ طافحٌ/ وداخلهنَّ الأُنس والشهواتُ» (الجواهري، الرَّجعيون)؟! وأي بلد إذا حُكم بعصابات تأتيه بانقلابات أو انتخابات، وتتلاقى الديكتاتورية والدِّيمقراطية في مسار واحد، ولم يُحذف السِّلم والسَّلام مِن تاريخه؟! أقول: مِن حق المتأمل في أراجيف العراق، أن يحسبه بلاد دم وخراب، وهو يرى تواتر الموت بسلسلة مِن الكوارث، ومَن استورد أدوات كشف المتفجرات الفاسدة مازال آمناً، وهذا ما تقتضيه ديمقراطية الطَّوائف، التي تحاصصت فيها الجماعات مِن الرئاسة إلى الفِراشة، يحلمون بتأبيد السُّلطة، بما قاله العباسيون: «اعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منَّا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم» (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك). هكذا ظنوا أن تدوم لهم بالدِّيمقراطية المنكوسة وبالوجوه نفسها، ومن يرثها مِن إخوان وأبناء وأصهار. ألم يقلها صاحب «دولة القانون»؟! لكن لا يصح نسيان وجه آخر مِن تاريخ العراق، تاريخ مَن حرص على السِّلم والسَّلام، وفي أحلك الظّروف. كتب العزاوي (ت 1971) عن السَّنة التي استباح فيها عباس الصَّفوي بغداد (1622م): «فرق بدفاتر (أسماء السُّنَّة) و(أسماء الشِّيعة)، ودونها وأودع مِن السُّنَّة مَن لا يحصون بيد الشِّيعة (مِن القادمين معه) فعذبوهم بأنواع العذاب، وقتلوا فيهم كثيراً ليضطروهم إلى بيان أموالهم وسائر ممتلكاتهم. وكان في نية الشَّاه أن يقضي عليهم جميعاً، ولكن الكليدار (السَّادن) للإمام الحسين (رض) نقيب الأشراف في بغداد السَّيد دراج مِن رؤساء الشِّيعة، وله جاه عند الشَّاه استشفع بالكثيرين، إذ أنه أدخلهم في دفتره، وبَين أنهم مِن محبي أهل العبا فتمكن مِن إنقاذهم» (العراق بين احتلالين). كأن اليوم مثل الأمس، نزاع إرادات داخل بغداد، وتوزيع الدَّفاتر بأسماء الشِّيعة والسُّنة، فسابقاً «العراق ابتلي ببلاء عظيم بين ناري حكومتين تتنازعان السُّلطة. هذا مع العلم بأن العثمانيين راعوا عين الطَّريقة في القتل والطَّعن بنسل هؤلاء، أو الفتوى بقتلهم، أو حرق موتاهم بعد نبش قبورهم، ما عدا صفي (جد الصَّفويين)، وما ماثل من الفظائع. فلا يُعذر هؤلاء أيضاً، سواء كان بطريقة المقابلة بالمثل أو ابتداء» (المصدر نفسه). تدور الأيام ويحتل العثمانيون بغداد، ولم تشفع للسَّيد دراج مجازفته بحياته، فتقدم الوالي العثماني بقتل منقذ السُّنيين العراقيين مِن سيف الشَّاه عباس، لأنه لا يهمه السُّنَّة، مثلما الصَّفوي لا يهمه الشِّيعة. كتب العزاوي قائلاً: «هذا العمل المشكور كله لم يمنع الوالي من الوقيعة به بعلةِ أنه كان شيعياً معروفاً بتشيعه، فلم يتحمل شهرته ومكانته، فاتخذ ذلك وسيلة للقضاء عليه» (نفسه). أتعلمون كم سُنياً وشيعياً، في نزاعات بعد 2003، قُتل بعد النَّظر في الدَّفاتر مثل التي قُدمت للسيد دراج؟ واليوم وصلت إلى أيدي الدَّمويين المنفذين، وكم قتل حصل على الاسم والكُنية! هل نظر، الذين يُدعون مِن أهل الثَّقافة وأصبحوا تحت إمرة أمراء الحرب، في تضحية السَّيد دراج، أو الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) وقد سجنته السُّلطة بتهمة إخفاء علويين، وما هي شدة الأواصر بين الإمام محمد بن إدريس الشَّافعي (ت204هـ) والعلويين، وماذا قَدم الإمام أبو حنيفة النُّعمان (ت150هـ) للعلويين! فكيف يُختصر هؤلاء بـ«داعش» وفكرهم الذي يسوق الشَّباب إلى حتوفهم بأكذوبة الفوز بالجنَّة، وفي المقابل كيف تحجب تضحية السَّادن بمليشيا يساق الشَّباب فيها إلى حتوفهم بعذر لا يقل عن تهافت الأول. يُفهم مصطلح السِّلم كحالة مؤقتة بين المتحاربين، أما مصطلح السَّلام فهو الأعم والدائم، وورد اسماً مِن أسماء الله. فلو أطلقنا البحث عمَّن عمل مِن أجل السِّلم، ومَن سعى للسَّلام على الأراجيف الطَّائفية والدينية، لظهرت في تاريخ العراق حصة مِنهما، ولنُظر إلى بغداد «مدينة السَّلام» على الحقيقة لا المجاز، وهكذا جاء عنوان سِفر الخطيب البغدادي (ت463هـ): «تاريخ مدينة السَّلام». أقول رفقاً بالعراق: وأي البلدان، شرقاً وغرباً، لو انتقينا الحروب والمقاتل مِن تاريخها لم يظهر دموياً؟ ترون العراق أمام فتنة خبيثة، نَصفُها ببيت الرَّصافي: «وما النَّاسُ إلا خادع أدرك المُنى /وآخرُ مخدوع لها غير مُدركِ» (الدِّيوان1959). غير أن دعم ثقافة السِّلم والسَّلام الاجتماعيين، كجزء مِن التَّاريخ، يفسد على أهل الفتنة الخداع بالوسائل والغايات.