حذرنا مراراً وتكراراً من تحول بنجلاديش إلى باكستان أو أفغانستان ثانية لجهة تركز الجماعات المتشددة فيها والانطلاق منها لإيذاء جاراتها وعموم دول آسيا شرقاً وغرباً ووسطاً، ولم يكن تحذيرنا اعتباطياً وإنما مستند على معطيات قديمة وحديثة. ولقد جاءت العملية الإرهابية المتوحشة التي وقعت خلال الآونة الأخيرة في أرقى أحياء العاصمة دكا، وتبناها الفرع الآسيوي لتنظيم «داعش» المجرم، لتؤكد هذا الأمر وتقول إن جماعات «إسلاموية» متطرفة تعمل من تحت الأرض، وتستغل عوامل الفقر والفوضى السائدة في بنجلاديش لتجنيد الأنصار ودفعهم نحو أعمال جنونية. والحقيقة أن الفكر المتشدد متجذر في البيئة البنجلاديشية منذ أن كانت تسمى بالجناح الشرقي لباكستان. ودليلنا هو أعمال القتل الوحشية الموثقة التي ارتكبتها ميليشيات أصولية تأسست على وجه السرعة لمنع قيام دولة بنجلاديش المستقلة يوم أن رفض ذو الفقار علي بوتو وزملاؤه من ساسة باكستان نتائج الانتخابات الديموقراطية في عام 1971 للحيلولة دون تولي من كان يفترض أن يكون أول رئيس بنغالي للبلاد وهو الشيخ مجيب الرحمن. وقتها ارتكبت هذه الميليشيات من الجرائم ما يندى له الجبين كبقر بطون الحوامل وتشويه أجسام المؤيدين للانفصال بالأحماض الكيماوية وغيرها. وبعد حدوث الانفصال لم تجد هذه الجماعات أمامها سوى الاستسلام للواقع واستبدال قناعها من خلال التحول إلى أحزاب ذات توجهات إسلامية، لكن مع الاحتفاظ بروابط مع مثيلاتها المؤدلجة في باكستان مثل الجماعة الإسلامية التي هي في الواقع فرع من فروع جماعة «الإخوان المسلمين». لقد ظل ساسة بنجلاديش غارقين في خلافاتهم وتنافسهم على السلطة والإدارة، غير آبهين بمصير الدولة التي أسسوها بتضحيات وتكلفة بشرية عالية، بدليل المماحكات التي جرت ولا تزال قائمة ما بين الأرملتين الشيخة حسينة واجد ابنة الزعيم المؤسس مجيب الرحمن، والسيدة خالدة ضياء أرملة زعيم بنجلاديش الأسبق الجنرال ضياء الرحمن، ثم بدليل تنافس كل منهما على أصوات الأحزاب الإسلامية الصغيرة للاستمرار في السلطة. وكانت النتيجة أن تمددت سطوة الجماعات البنجلاديشية المتشددة، خصوصاً مع تلقيها الأموال من الخارج، والتحاق العديد من المتطرفين الآسيويين بها هرباً من الضربات التي لحقت بهم في ديارهم الأصلية كجمهوريات آسيا الوسطى وأفغانستان وإندونيسيا وماليزيا، ولعل الأمر الغريب في هذا السياق هو أن تحركات هؤلاء كانت مكشوفة، لكن السلطات الأمنية والاستخباراتية كانت تغض الطرف عنهم، بسبب وجود عناصر فيها من المتعاطفين مع التيار المتشدد، أو بسبب تعليمات عليا بضرورة عدم ضربهم من أجل استخدامهم كورقة سياسية ضد الخصوم، وذلك على نحو ما تردد في العديد من التقارير المحلية والغربية. غير أن التطورات التي حدثت في البلاد، ولاسيما سلسلة التفجيرات الإرهابية الخمسمائة التي وقعت بالتزامن في 63 مقاطعة من مقاطعات بنجلاديش الأربع والستين في 17 أغسطس 2005 جعلت هذه الجماعات لأول مرة تحت الأضواء الكاشفة، خصوصاً مع إصدار ما يسمى بجماعة المجاهدين بياناً تتحمل فيه مسؤولية تلك التفجيرات، وتتوعد الحكومة بالمزيد منها ما لم تؤسس الدولة الإسلامية المطبقة للشريعة. هذا الحدث غير المسبوق في اتساعه ودقته دفع السلطات ومخابراتها، التي ظلت طويلاً تنفي وجود أية حركات إسلامية متطرفة في بنجلاديش، إلى القيام بتحريات واسعة استغرقت أكثر من خمسة أشهر حول أمور كثيرة، كان من بينها أنشطة وصلات المنظمات المدنية ذات التوجه الإسلامي، وقد تبين من هذه التحريات وجود علاقة ما بين تزايد موجة العنف والتطرف في البلاد وأنشطة عشرة تنظيمات هي بمثابة فروع لجمعيات ومؤسسات أجنبية موجودة في دول شرق أوسطية، أو إنها تعتمد في مواردها المالية على الأخيرة. من هذه الجمعيات – طبقاً لما توصلت إليه التحقيقات- جمعية الإصلاح الاجتماعي وجمعية المنتدى الإسلامي ووكالة الإغاثة الإسلامية ومؤسسة الفرقان، وتنظيم «الجهاد الإسلامي» المتحالف مع «القاعدة» والذي يقوده المدعو «مولانا شوكت عثمان آغا»، وينتسب له نحو 15 ألف بنجلاديشي من سكان الأرياف الفقيرة، لكن قيل إن أهم وأخطر هذه التنظيمات هو «جمعية إحياء التراث»، التي كانت الخارجية الأميركية قد وضعتها على القائمة السوداء في عام 2002 بسبب ما قيل عن روابطها الموثقة مع تنظيم «القاعدة» الإجرامي. في الفترة الأخيرة، وتحديداً منذ العام الماضي، وبعدما تكررت عمليات طعن وخطف وقتل عدد من المدونين والصحفيين والكتاب العلمانيين أو غير المسلمين، قامت السلطات الأمنية البنجلاديشية ممثلة في «كتيبة الرد السريع» لمكافحة الإرهاب بحملة كبيرة اعتقلت من خلالها عدداً من المتشددين سرعان ما ارتفع في العام الجاري إلى أكثر من ألفي شخص، كان من بينهم المدعو معين الإسلام كبير منسقي تنظيم «القاعدة» في بنجلاديش، والمدعو ظفار أمين كبير مستشاري الأخير. ويبدو أن هذه الخطوة لم تكن سوى تبرئة للذمة أمام الرأي العام العالمي والدول الغربية التي ما برحت تأخذ على حكومة الشيخة حسينة واجد تدليلها للأحزاب الإسلاموية المتشددة بهدف ضمان استمرارها في السلطة، في الوقت الذي تنفي فيه الحكومة هذا الاتهام وتزعم إنها مهددة من قبل الإسلامويين بسبب تمسكها بنصوص الدستور العلماني للدولة. وجملة القول إن بنجلاديش تنزلق رويداً رويداً نحو الدولة الفاشلة، الأمر الذي يستدعي إجراء عملية جراحية عاجلة لها قبل استفحال الداء وانتشاره. *أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين