لا تزال تداعيات نتائج لجنة التحقيق في غزو العراق برئاسة «جون تشيلكوت» تتأرجح في الإعلام البريطاني بين خانة تأنيب الضمير الجمعي للنخبة البريطانية، وبين اعتبار نتائج التحقيق بمثابة محاكمة -وإن كانت متأخرة كثيراً - لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي أثبتت مجريات التحقيق أنه انساق وراء جورج بوش الابن، ووضع بريطانيا في سلة المزاج الأميركي خلال فترة حكم بوش الذي قاد عملية غزو العراق وتفكيكه وتهيئته للتحول إلى مسرح مفتوح للإرهاب والطائفية والمذهبية. الكارثة التي نجمت عن الغزو، ولم يضع لها الأميركان والبريطانيون أي حساب تتمثل في مرحلة ما بعد الغزو، وكان من الطبيعي أن يؤدي الوضع التالي للغزو إلى حدوث فراغ استغلته الجماعات الإرهابية التي وصل بها الحال إلى إعلان دولة «داعشية» أصبحت تمتلك موارد لدعم أنشطتها الإرهابية. وللأسف الشديد لا جدوى من الندم المتأخر على تدمير العراق، فحتى العراقيون أنفسهم وفقاً للانطباعات التي أدلوا بها في وسائل إعلام متفرقة حول استخلاصات لجنة التحقيق البريطانية المتعلقة بغزو بلدهم لم يعولوا كثيراً على ما قاله تقرير تشيلكوت، بالإضافة إلى أن دوافع التحقيق تتعلق أساساً برصد التبعات التي حصدتها بريطانيا من وراء المشاركة في الغزو، بمعنى أن هذه المحاكمة المتأخرة غير معنية بإصلاح ما أفسده توني بلير بقدر ما تبدو تقليداً غربياً في مراجعة أخطاء الساسة المتقاعدين. أما بالنسبة لما آلت إليه الأوضاع في العراق منذ الغزو في 2003 وما أعقبه من تدمير ممنهج واجتثاث لمؤسسات الدولة العراقية النظامية، فلم يعد الواقع اليوم بحاجة لمزيد من الإثباتات التي تشرح واقع الحال المر الذي وصل إليه العراقيون في ظل انهيار دولتهم على خلفية فشل الولايات المتحدة وبريطانيا في وضع حسابات دقيقة لما بعد تفكيك العراق وتسليمه للمليشيات الطائفية وجماعة «داعش»، بالإضافة إلى تسليم العراق بسهولة للكتل السياسية الموالية حتى النخاع لإيران. ولعل المجزرة البشعة التي شهدتها بغداد قبل أيام، وراح ضحيتها أكثر من 200 عراقي، تقدم دليلاً طازجاً على فداحة غزو العراق الذي أدى إلى خلق بيئة خصبة للجماعات الإرهابية، في مقابل الميليشيات الانتقامية ذات المرجعية الإيرانية، بينما لايزال السيد بلير يدافع عن قراره الخاطئ، ربما لمعرفته أن إعادة فتح ملف الغزو عبر تقرير تشيلكوت لا يتجاوز في نظر المراقبين مجرد المراجعات العاطفية وتأنيب الضمير الشكلي على هيئة اعتراف بالذنب أمام كاهن كنيسة بهدف الحصول على الغفران رغم بشاعة الجريمة المرتكبة! وما لم يقله تقرير لجنة التحقيق بشكل صريح هو أن خطأ بلير يستوجب المحاسبة، وبالمثل لا يزال جورج بوش الابن ومساعديه الذين أداروا عملية الغزو خارج نطاق المحاسبة، رغم النتائج الكارثية التي حصدتها الولايات المتحدة ودول الغرب من وراء تفكيك العراق وإشاعة الفوضى في الشرق الأوسط وتوفير بيئة للإرهاب وجماعاته. ومن المفارقات أن تقرير «جون تشيلكوت» بشأن تقصي ملابسات مشاركة بريطانيا في غزو العراق جاء بعد أيام من تصويت في الاستفتاء البريطاني لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي ضداً على رغبة الجيل البريطاني الشاب في البقاء ضمن المنظومة الأوروبية. الأمر الذي اعتبر مؤشراً على استنهاض الجيل البريطاني القديم لتعصب قومي شوفيني يعزز من تنامي تيار «اليمين» المحافظ في بريطانيا، وفي الوقت ذاته يصنع شرخاً كبيراً في المجتمع البريطاني قد يؤسس في المستقبل القريب لتشظي المملكة المتحدة التي من المحتمل أن تكون في المستقبل بريطانيا أخرى منكمشة وصغيرة غير التي نعرفها اليوم، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ميول شمال أيرلندا وأسكتلندا للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وهذا يجعل من طرح التساؤل حول وحدة بريطانيا مشروعاً. وبالتالي قد تدفع بريطانيا ثمن تفكيكها للعراق طبقاً للمؤشرات التي توحي بقرب انقسام المملكة التي لن تكون كما في السابق الدولة «العظمى». ويعتبر الوصف النرجسي الذي يلصق كلمة العظمى ببريطانيا من مخلفات الماضي الاستعماري، ويدعو للسخرية لأنه أصبح يمثل حالة تراثية فلكلورية خالية من المعنى في الزمن المعاصر، وسبق أن استنسخ الوصف ذاته معمر القذافي الذي أوصل ليبيا إلى حافة الانهيار، ولم يؤسس للشعب الليبي دولة بقدر ما اكتفى بوصف ليبيا بالعظمى، والدرس المستفاد أن جنون العظمة لا يبني دولاً تعيش في المستقبل. *كاتب إماراتي