أثار قرار الناخبين البريطانيين في الثالث والعشرين من شهر يونيو بالتصويت لصالح انفصال بريطانيا استغراب كثير من المحللين السياسيين. صحيح أنّ بريطانيا لم تكن من المؤسسين الرئيسيين للاتحاد الأوروبي، وصحيح أنّ الجنرال ديجول كان يعارض على الدوام دخول بريطانيا للاتحاد، باعتبارها حصان طروادة أميركياً على الساحة السياسية الأوروبية، وصحيح أيضاً تحفظات بريطانيا الكبيرة في عضويتها في الاتحاد الأوروبي، فيما يخص العملة الأوروبية الموحّدة، والسياسة الزراعية، وفيزا الشينجن، غير أنّ بريطانيا حين دخلت إلى عضوية الاتحاد في عام 1973، أصبحت عبر الوقت ركناً من الأركان الثلاثة لدول الاتحاد الرئيسة، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وكنّا ونحن طلاب ندرس الوحدة السياسية والاقتصادية للدول، نعتبر الاتحاد الأوروبي بمثابة التجربة الناجحة عالمياً في تجميع عدة دول تحت مظلة متطوّرة زمنياً، بدءاً من الاتحاد الجمركي، إلى منطقة التجارة الحرة، فالسوق المشتركة، وانتهاءً بـ«الاتحاد السياسي». وهذه النظرة «الخطّية» لمسار الوحدة الاقتصادية والسياسية كانت عنصر إلهام، ليس فقط لطلاب السياسة، بل لكثيرين ممن دعوا للوحدة العربية، باعتبار وحدة اللغة والدم، والعدو المشترك، والمصير المشترك، والتكامل الاقتصادي. وفي البداية، كان اتحاد الحدود والصلب الأوروبي بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية بمثابة البلسم الاقتصادي لمعالجة الداء السياسي المتمثّل في صراعات تاريخية دائمة بين الجارين اللدودين، ألمانيا وفرنسا. وبعد أن نجح هذان البلدان في جمع مجالات متعددة من سياستهما الاقتصادية والتجارية والصناعية تحت مظلة واحدة، تهافتت بقية الدول الأوروبية الأخرى للانضمام إليهما، باعتبار مشروعهما المثال الأول للتطور السياسي والاقتصادي، وكان معظم المتحفظين هم من الساسة البريطانيين، الذين كانوا يفضّلون الحليف الأميركي البعيد جغرافياً، عن الصديق الأوروبي القريب. وما إن دخلت بريطانيا في عضوية الاتحاد، حتى ازدهر اقتصادها، وأصبحت لندن عاصمة أوروبية، خاصةً في مجال المال، أكثر منها عاصمة سياسية لبريطانيا. غير أنّ أموراً كثيرة كانت تقضّ مضاجع الوطنيين في فرنسا وبريطانيا وغيرهما من بلدان الاتحاد. وأولها زيادة عدد القوانين الصادرة من بروكسل، وسُموّها قانونياً على القوانين الصادرة من البرلمان البريطاني أو غيره من برلمانات الدول الأعضاء. وثانيها، أنّ معظم القرارات والقوانين لم تكن تصدر من البرلمان الأوروبي المنقسم جغرافياً بين بروكسل وستراسبورج في فرنسا، بل كانت تصدر من المفوّضية الأوروبية، ذلك الكيان البيروقراطي الهائل، الذي يشترك في عضويته موظفون ينتمون إلى عددٍ كبير من الدول الأوروبية، بما فيها بريطانيا. غير أنّ هذه القرارات لم تكن تُتخذ بشكلٍ ديمقراطي، بل بشكلٍ بيروقراطي من عاصمة بعيدة، لا تلقي بالاً لمصالح المواطنين الأوروبيين في الدول الثماني والعشرين الأعضاء في الاتحاد. أما عن حركة البشر بين بلدان الاتحاد الأوروبي، فقد كانت حركة الشباب وعلى ظهورهم حقائب السفر، وبكل حريّة بين بلدان الاتحاد، علامة مهمة في التكامل والتجانس بين الدول الأعضاء. وطالما كانت هذه الحركة محدودة، فخاصةً في شغل الوظائف الخاصة بالطبقة المتعلّمة أو بالتجار ورجال البنوك، لم تؤثر إلا بشكلٍ إيجابي في ربط عرى الاتحاد وتعميقها. أما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانفكاك دول أوروبا الشرقية من ربقته، سرعان ما دخلت هذه الدول الجديدة في عضوية الاتحاد الأوروبي. ولم تقتصر هذه الدول على طلب العون في مجال التنمية الاقتصادية والسياسية والعدلية من بروكسل وبرلين، بل إنّ معظم مواطنيها الذين عاشوا ردحاً من حياتهم محرومين من السفر إلى الخارج، باتوا على بُعد ساعات محدودة من الوصول إلى برلين وباريس ولندن. وقد آثر العديد منهم العمل في وظائف متدنية في فنادق بريطانيا ومطاعمها على العمل في بلدانهم الأصلية. وحصل بعضهم على الجنسية البريطانية، وأصبح بعض أبنائهم أعضاء بارزين في البرلمان والسلطة التنفيذية. ونظر بعض السياسيين البريطانيين إلى هجرة البولنديين ومواطني أوروبا الشرقية إلى بريطانيا، على أنها غزوٌ بشري. وحاول رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الضغط على الاتحاد الأوروبي لوقف هذه الهجرة الشرعية، إلا أنّ ألمانيا وغيرها من دول الاتحاد لم تذعن لطلبات كاميرون في هذا المجال، وهو ما دعاه إلى الوعد بالسير نحو التصويت على الانفصال. وكل ذلك جاء قبل توافد اللاجئين السوريين على القارة الأوروبية. ولا يهمنا تفاصيل ما حدث وتداعياته، بل إن المرء ليتساءل كيف يمكن للعواطف والنعرات السياسية والرغبة في الانكفاء والانعزال أن ترفس العوائد الاقتصادية الضخمة التي كانت تأتي إليها عبر هذه العضوية، لتستشعر بالنشوة الشعبوية والقومية من انفصال محتمل يرضي شعور العظمة لدى السياسي والمواطن العادي، ولكنه يصيب جيب المواطن بنقص حاد في موارده، وزيادة في ضرائبه. وهذا التناقض الحادّ بين المنفعة الاقتصادية والشعور الزائف بالانتماء الوطني والشعبوي، خاصةً لدى شعوب متطوّرة عُرف عنها في تاريخها الطويل أنها تفكّر بشكلٍ منطقي، وتُبعد العاطفة عن قراراتها، أمر يثير الكثير من التساؤلات حوله. هل هذا يعني أنّ الدول والشعوب لا تفكّر دائماً بشكلٍ منطقي؟ وهل الديمقراطية التي تملي مثل هذا الانفصال هي بالفعل الآلية المثالية لاتخاذ قرارات مصيرية، خاصةً في موضوع جوهري مثل عضوية الاتحاد الأوروبي، أو حتى البقاء داخل مظلة المملكة المتحدة؟إن هذا التناقض بين السياسة والاقتصاد أمرٌ يحتاج إلى دراسات معمّقة، تبعدنا عمّا كنا نعرفه في الماضي من تكامل بينهما، وخاصةً في بناء الدول. ويتساءل المرء، هل غادرنا عصر المنطق وفهم أبعاد المنفعة بشقّيها السياسي والاقتصادي، وأنّ منطقاً فئوياً ينتمي إلى الهوية وتعميق الانتماء قد أوشك أن يطلّ علينا؟ وفي هذا تراجع كبير عن قيم عصر الحداثة ومقوماتها، وعودة إلى ملامح عصور قديمة كنا نعتقد أنها قد أصبحت من آثار الماضي المندثر. ----------------- أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود